التصنيع المحلي للسيارات في ظل العولمة…هل يمكن لخطط ترامب استعادة نموذج فورد؟

في بداية القرن العشرين، وعندما كانت الثورة الصناعية الثانية في أوجها، كان الاعتماد على السيارات يشير إلى بداية طفرة تقنية جديدة. في ذلك الوقت، راود رجل الأعمال والمبتكر الأمريكي “هنري فورد” حلمًا كبيرًا؛ وهو أن يتم تصنيع السيارات بالكامل داخل الولايات المتحدة.
ولتحقيق هذا الحلم، أطلق “فورد” في عام 1917 مشروع “ريفر روج”، الذي أصبح لاحقًا أكبر مجمع صناعي متكامل في العالم. بمجرد اكتماله في عام 1928، ضم المجمع أكثر من 90 مبنى وشبكة سكك حديدية طويلة، وتطلب تشغيله أكثر من 100 ألف عامل.
وقد نجح هذا المشروع في تحقيق التكامل الرأسي في صناعة السيارات، حيث كان يتم تصنيع جميع مكونات السيارة داخله، وكان يستقبل المواد الخام مثل الحديد والمطاط والفحم من الموانئ ومناجم “فورد” مباشرة.
وسرعان ما أصبح “ريفر روج” نموذجًا عالميًا للابتكار والتصنيع المتكامل، لكن ذلك كان ممكنًا فقط بسبب طبيعة الاقتصاد وظروف صناعة السيارات في تلك الحقبة.
ومع مرور الوقت، واجه المشروع تحديات كبيرة، ولم يستمر النموذج المتكامل الذي وضعه “فورد” على المدى الطويل، بسبب التغيرات الجذرية في نظام الإنتاج العالمي، الذي جعل الاعتماد على شبكة الموردين المتخصصين أكثر كفاءة من النموذج المتكامل رأسيًا.
كما أن تكلفة تشغيل وصيانة منشأة بهذا الحجم كانت مرتفعة للغاية، خاصة مع ظهور منافسين أقوياء في السوق. علاوة على ذلك، ارتفعت تكاليف العمالة في الولايات المتحدة مقارنة بالأسواق الناشئة، في حين أن التطورات التكنولوجية استدعت استيراد مكونات متخصصة من الخارج.
ورغم أن المشروع تكيف واستمر قيد التشغيل لعقود تالية، إلا أن الفكرة الأصلية سقطت أمام واقع الاقتصاد العالمي المتغير. واضطر “فورد” لتشغيله بما يتناسب مع الواقع الجديد من خلال تجميع السيارات مع الاعتماد على شبكة موردين عالميين.
ورغم أن “فورد” تعلم بسرعة من أجل التكيف والبقاء، إلا أن البعض في الولايات المتحدة، بما في ذلك الرئيس السابق “دونالد ترامب”، يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد، حيث يحاول إعادة إحياء نموذج قديم لم يعد صالحًا في العصر الحديث.
في العصر الحديث، أصبحت السيارات نتيجة لسلاسل توريد عالمية مترابطة لا تستطيع أي شركة سيارات كبيرة تأمين مكوناتها محليًا بالكامل. حتى السيارات الأمريكية تعتمد على آلاف القطع المستوردة من مختلف أنحاء العالم.
و على سبيل المثال، تحتوي السيارة النموذجية الحالية على حوالي 30 ألف قطعة منفصلة، تأتي من موردين متخصصين حول العالم بعد عقود من تحسين كفاءة التكلفة في سلسلة التوريد.
وعليه، فإن “هذا النوع من العولمة” ليس مجرد خيار، بل ضرورة لوجستية واقتصادية لمصنعين مثل “جي إم سي”، الذين يعتمدون على شبكة متنوعة من الموردين للحفاظ على قدرتهم التنافسية.
وبالتالي، فإن أي محاولة للإخلال بهذا التكامل لن تنجح كما كان الحال قبل قرن من الزمان، ومن المرجح أن تُعتبر مجرد “أضغاث أحلام”، بسبب التحديات المرتبطة بالتكلفة وقابلية التوسع والخبرة التقنية.
|
المكونات الرئيسية لسيارة “يوكون” وبلد منشأها |
||
المكون |
بلد المنشأ |
مستوى الأهمية |
|
محرك |
الولايات المتحدة |
مرتفع |
|
ناقل حركة |
الولايات المتحدة |
مرتفع |
|
نظام المعلومات والترفيه |
الصين |
منخفض |
|
وحدة التحكم بالمحرك |
ألمانيا |
مرتفع |
|
الإطارات |
المكسيك |
مرتفع |
|
الزجاج |
الصين |
متوسط |
|
البطارية |
المكسيك |
مرتفع |
|
مجموعة الأسلاك |
المكسيك |
مرتفع |
|
أجهزة الاستشعار |
اليابان |
متوسط |
|
هيكل صلب- الألومنيوم |
كندا |
مرتفع |
تتمركز صناعة المكونات الأساسية مثل أشباه الموصلات والمواد المتخصصة بشكل كبير في الخارج، ما يجعل التوريد العالمي أمرًا بالغ الأهمية.
شركات السيارات الكبيرة تعتمد على الموردين العالميين في معظم المكونات الأساسية مثل المحركات وناقلات الحركة والأجزاء الإلكترونية، وكذلك الإطارات والزجاج.
على سبيل المثال، سيارة “جي إم سي يوكون” طراز 2024، التي تُجمع في أرلينغتون، تكساس، تحتوي على مكونات أمريكية وكندية بنسبة 37%، بينما تأتي باقي مكوناتها من المكسيك وبقية العالم.
هذا يوضح كيف أن حتى السيارات الأمريكية تصنع من مكونات مستوردة، مع تواجد المكسيك كقاعدة هامة لإنتاج قطع غيار مثل ضفائر الأسلاك والبطاريات.
خلال ولايته الأولى، فرض “ترامب” تعريفات جمركية على الصلب والألمنيوم، مما رفع التكاليف وأدى إلى تعطيل سلاسل التوريد لشركات صناعة السيارات الأمريكية. ومع أن هذه التعريفات لم تُلغِ الاعتماد على الموردين العالميين، فقد أدت إلى زيادة نفقات الشركات الأمريكية بشكل كبير.
أظهرت دراسات أن الرسوم الجمركية التي فرضها “ترامب” على قطع غيار السيارات ستزيد من تكاليف صناعة السيارات في الولايات المتحدة بمقدار 4900 دولار لكل مركبة مُجمّعة محليًا، مما يهدد بزيادة الأسعار وتقليص هوامش الربح.
الرسوم الجمركية الجديدة قد تؤدي إلى تفاقم الوضع الاقتصادي. ووفقًا لتقرير من “Center for Automotive Research”، فإن هذه الرسوم ستزيد من تكاليف الشركات الأمريكية بحوالي 108 مليارات دولار في 2025، ما يهدد استمرارية الصناعات المحلية ويؤثر على القدرة التنافسية.
بالتالي، من الصعب في الاقتصاد الحديث تصنيع سيارة كاملة داخل حدود دولة واحدة. حالة “جي إم سي يوكون” توضح كيف تعتمد حتى السيارات المُصنّعة في الولايات المتحدة على سلسلة توريد عالمية معقدة.
والحل الأكثر فعالية هو تبني سياسات تجارية تحقق توازنًا بين الأمن والانفتاح، وإدارة فعّالة لسلسلة التوريد بدلاً من محاولة العودة إلى نموذج قديم لم يعد قابلًا للتطبيق.