الاقتصادية

التيسير الكمي: نفخ الروح في الاقتصاد بين المنقذ والمحفوف بالمخاطر

في لحظات الأزمات الكبرى، حين تقف أدوات السياسة النقدية التقليدية عاجزة أمام تباطؤ النمو واشتداد الركود، تظهر سياسات استثنائية تحمل طابعًا غير تقليدي.

من بين أبرز هذه السياسات، يبرز مفهوم التيسير الكمي، الذي يشبه من حيث الأثر ضخ كميات ضخمة من الأوكسجين في رئتي اقتصاد يوشك على الاختناق.

إنها سياسة قائمة على إغراق الأسواق بالسيولة لتعزيز الإنفاق والاستثمار، وفتح شرايين الائتمان أمام الأفراد والشركات.

لكنها، ورغم فعاليتها الظاهرة، لا تخلو من آثار جانبية قد تطفو على السطح في المستقبل.

ما هو التيسير الكمي؟

هو شكل غير تقليدي من السياسة النقدية، يقوم فيه البنك المركزي بشراء كميات ضخمة من الأصول المالية طويلة الأجل – مثل السندات الحكومية وسندات الشركات – لزيادة السيولة وتحفيز النشاط الاقتصادي عبر خفض أسعار الفائدة طويلة الأجل.

الفكرة بسيطة في ظاهرها: زيادة المعروض النقدي يؤدي إلى انخفاض تكاليف الاقتراض، ما يشجع البنوك على الإقراض، ويحفز المستهلكين والشركات على الإنفاق والاستثمار.

كيف يتم تنفيذ التيسير الكمي؟

عندما يعتمد البنك المركزي سياسة التيسير الكمي، فإنه يقوم بالخطوات التالية:

شراء الأصول بكميات هائلة: وخصوصًا السندات، ما يؤدي إلى زيادة الطلب عليها.

ارتفاع أسعار السندات: ومعها تنخفض أسعار الفائدة نظراً للعلاقة العكسية بينهما.

تسهيل الإقراض: مع انخفاض الفائدة، تصبح القروض أكثر جذبًا، سواء للأفراد أو للشركات.

تنشيط الأسواق المالية: المستثمرون يبحثون عن عوائد أعلى فيتجهون نحو الأسهم وأصول أخرى.

لماذا تلجأ البنوك المركزية لهذه الآلية؟

في أوقات الأزمات، عندما تصل أسعار الفائدة قصيرة الأجل إلى حدودها الدنيا، كما حدث خلال الأزمة المالية العالمية أو جائحة كوفيد-19، تصبح أدوات السياسة النقدية التقليدية غير فعالة. هنا، يظهر التيسير الكمي كخيار بديل وضروري.

لكن… هل التيسير الكمي آمن تمامًا؟

بالرغم من فوائده الظاهرة، فإن لهذه الأداة وجهًا آخر:

مخاطر التضخم: ضخ سيولة كبيرة قد يؤدي إلى ارتفاع عام في الأسعار.

خطر الركود التضخمي: في أسوأ السيناريوهات، قد يجتمع ركود الاقتصاد مع ارتفاع الأسعار.

تآكل قيمة العملة: مع تضخم المعروض النقدي، تنخفض القوة الشرائية للعملة المحلية.

خطر الاعتماد الزائد: عندما يعتاد الاقتصاد على الدعم الاصطناعي، قد ينهار بمجرد سحب هذا الدعم.

f6e54147 7ae8 4045 9986 e1109a2c8208 Detafour

في خضم أزمة كوفيد-19، أعلن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي عن برنامج ضخم لشراء سندات وأوراق مالية مدعومة بالرهن العقاري بقيمة تجاوزت 700 مليار دولار. الهدف كان واضحًا: دعم الاقتصاد ومنع الانهيار.

لكن هذه الخطوة أثارت جدلاً واسعًا، خاصة مع تصاعد مخاوف التضخم وتزايد حجم الدين العام، وسط تساؤلات عن مدى قدرة الفيدرالي على التحكم في الآثار طويلة الأجل لهذه السيولة الهائلة.

ورغم أن التجربة ساهمت في استقرار الأسواق، فإنها كانت بمثابة مغامرة محفوفة بالمخاطر، مع آثار اقتصادية لا تزال تُدرس حتى اليوم.

التيسير الكمي ليس عصا سحرية. إنه أداة قوية تُستخدم حين تستنزف الحلول التقليدية، لكنه قد يتحول إلى عبء طويل الأمد إذا لم يُستخدم بحذر. وبينما تنجح هذه السياسة أحيانًا في إنقاذ الاقتصادات من الغرق، فإنها قد تترك خلفها ديونًا متراكمة، وتضخمًا يصعب السيطرة عليه.

فهل يمكن الاعتماد عليه كحل دائم؟ أم أنه مجرد “علاج مؤقت” قد يكون له آثار جانبية على المدى البعيد؟

يبقى الجواب رهينًا بظروف كل اقتصاد، ومدى استعداد صانعي القرار لتحمل تبعاته لاحقًا.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى