مالتوس: نبوءة التشاؤم التي ألهمت الفكر… وأربكت السياسات

هل المستقبل محكوم بالجوع والحروب بسبب النمو السكاني؟ سؤال أرّق البشرية منذ قرون، وتحوّل إلى هاجس فكري مع صدور كتاب “مقال عن مبدأ السكان” لتوماس روبرت مالتوس في أواخر القرن الثامن عشر.
ورغم مرور أكثر من مئتي عام على هذه الأطروحات، لا تزال أفكار مالتوس تُثير جدلاً واسعًا بين الاقتصاديين وعلماء السكان والمفكرين المعنيين بقضايا التنمية والبيئة.
فمالتوس، الذي رسم صورة قاتمة لمستقبل الإنسان، لم يكن مجرد ناقوس خطر، بل أيضًا منعطفًا في مسار الفكر الاقتصادي والاجتماعي الحديث.
فبينما حذّر “نبي التشاؤم” من أن النمو السكاني المتسارع سيفوق حتمًا قدرة الموارد على تلبية الاحتياجات، راسماً بذلك صورة قاتمة لمستقبل البشرية، فإن إرثه اليوم يتجاوز مجرد التذكير بنبوءة لم تتحقق بالكامل.
إن قراءة متأنية لأفكار مالتوس، في سياقها التاريخي ومع مستجدات عالمنا الراهن، تقدم لنا دروسًا قيمة حول العلاقة المعقدة بين الإنسان ومحيطه، وتحفزنا على التفكير بشكل أكثر عمقًا في تحديات الحاضر والمستقبل.
وُلد مالتوس عام 1766 في كنف عائلة إنجليزية ميسورة الحال، حيث تلقى تربية غذّت فيه حب الاستطلاع والتفكير النقدي، خاصة بتأثير من والده الذي كان على صلة بفلاسفة عصر التنوير كروسو وهيوم.
مسيرته الأكاديمية في جامعة كامبريدج شهدت تفوقه في اللغات الكلاسيكية، لكن اهتماماته سرعان ما اتجهت نحو القضايا الإنسانية الكبرى، ليُكرس حياته لدراسة العلاقة الشائكة بين النمو السكاني وتوافر الموارد.
في عام 1798، أطلق مالتوس قنبلته الفكرية بكتابه “مقال عن مبدأ السكان”، الذي نُشر في البداية دون اسم مؤلفه. ارتكزت فرضيته الأساسية على أن السكان يتزايدون وفق متوالية هندسية (1,2,4,8,…)، بينما تنمو الموارد، وعلى رأسها الغذاء، وفق متوالية حسابية (1,2,3,4,…).
هذه المفارقة الحتمية، بحسب رأيه، تقود إلى صراع دائم من أجل البقاء، حيث لا مفر من المجاعة والبؤس والحروب ما لم تُتخذ إجراءات صارمة للحد من التكاثر البشري.
قسّم مالتوس آليات “التصحيح” الطبيعية إلى ثلاث فئات رئيسية: “الرذيلة” التي تشمل الحروب والعلاقات غير الشرعية، و”البؤس” الذي يتجلى في الأوبئة والمجاعات، و”الضبط الأخلاقي” الذي يتمثل في تأخير الزواج والعزوبة والامتناع عن الإنجاب.
أثارت هذه الأفكار صدمة كبيرة في الأوساط الفكرية التي كانت تميل إلى التفاؤل بإمكانية تحقيق “الكمال البشري”.
لم تقتصر تأثيرات أفكار مالتوس على النقاشات النظرية، بل امتدت لتشمل السياسات العملية في بريطانيا. فقد دعا إلى إلغاء قوانين إعانة الفقراء وإنشاء “دور عمل” قاسية بهدف تقليل الاعتماد على الدولة وتشجيع العمل.
ومع ذلك، تجاهل مالتوس التطورات الهائلة التي كانت تلوح في الأفق مع الثورة الزراعية والصناعية، بالإضافة إلى الدور المتزايد للتعليم وتمكين المرأة، وهي عوامل لعبت دورًا حاسمًا في خفض معدلات الإنجاب في المجتمعات المتقدمة لاحقًا.
بعيدًا عن نظريته السكانية الشهيرة، قدم مالتوس إسهامات هامة في تطوير الفكر الاقتصادي. ففي كتابه “مبادئ الاقتصاد السياسي” (1820)، طرح مفهوم “الطلب الفعّال”، مؤكدًا على أهمية التوازن بين الادخار والاستهلاك لتحقيق النمو الاقتصادي المستدام. وبذلك، يُعتبر مالتوس من أوائل المفكرين الذين مهدوا الطريق لظهور الأفكار الكينزية بعد قرن من الزمان.
مع الأسف، لم يسلم إرث مالتوس من الاستغلال لتبرير سياسات لاإنسانية. ففي الولايات المتحدة خلال عشرينيات القرن الماضي، استُخدمت أفكاره لتطبيق برامج تعقيم قسري طالت ما يقرب من 70 ألف شخص تحت ذريعة “تحسين النسل”.
كما غذت نظريته نزعات تحسين النسل في أوروبا، والتي بلغت ذروتها في فظائع السياسات النازية.
في ستينيات القرن الماضي، عادت الأفكار المالتوسية للظهور بقوة مع كتاب “القنبلة السكانية” لبول إرليش، الذي حذر من انهيار الحضارة بسبب الانفجار السكاني.
وقد أدت هذه التحذيرات إلى تبني سياسات تهدف إلى تقليل عدد السكان في دول العالم النامي. إلا أن التطورات اللاحقة في مجالات التعليم والزراعة والصحة كشفت عن خطأ هذه التنبؤات المتشائمة.
تكشف الإحصاءات الحديثة عن مفارقة مهمة: فالدول المتقدمة التي تتمتع بمستويات تعليم عالية ورعاية صحية جيدة تسجل أدنى معدلات الخصوبة، وهو ما يتعارض مع افتراضات مالتوس. يبدو أن الفقر، وليس الوفرة، هو ما يرتبط غالبًا بارتفاع معدلات النمو السكاني.
على الرغم من طابعه التشاؤمي، يحمل لنا فكر مالتوس درسًا بالغ الأهمية: مواجهة المخاطر المحتملة تتطلب تفكيرًا إبداعيًا وحلولًا مبتكرة، لا مجرد الاستسلام للخوف. فالبشر ليسوا مجرد أرقام في معادلات رياضية، بل كائنات قادرة على التعلم والتكيف وتغيير مسار الأحداث، وبناء مستقبل يتجاوز حدود النظريات القديمة.
في عالمنا المعاصر، الذي يواجه تحديات جسيمة كالتغير المناخي والأمن الغذائي والهجرة، يظل الدرس الأهم من إرث مالتوس هو: لا سبيل إلى مواجهة المستقبل بالتخوف والانكفاء، بل بالعقل والعمل الجادين لبناء عالم أكثر استدامة وعدالة.