العقل والعملة: ديفيد هيوم.. الفيلسوف الذي أسس للتشكيك ورسم خارطة الاقتصاد الحديث

يقف ديفيد هيوم (1711–1776) كشخصية استثنائية في تاريخ الفكر، ليس فقط كفيلسوف هزّ أركان اليقين التقليدي، بل كعقلية متعددة الأوجه صاغت ملامح الفلسفة التجريبية والاقتصاد الكلاسيكي على حدٍ سواء.
لقد كان هيوم أكثر من مجرد “المتشكّك الأعظم”؛ كان مفكرًا متكاملاً رأى في فهم الطبيعة البشرية مفتاحًا لكل من المعرفة والأمور المادية.
وُلد هيوم في إدنبرة، أسكتلندا، ورغم تطلعات عائلته لدراسة القانون، فإن شغفه الحقيقي بالفلسفة والآداب دفعه إلى الانغماس في القراءة لدرجة أدت إلى انهيار عصبي مبكر. كانت هذه إشارة على عمق الصراع الفكري الذي سيحدّد مساره.
في عام 1734، اعتزل هيوم في هدوء مدينة “لا فليش” الفرنسية، ليقضي ثلاث سنوات في صياغة عمله الطموح: “رسالة في الطبيعة البشرية”.
كان هدفه أن يقدم نظامًا فلسفيًا متكاملاً مستوحى من المنهج التجريبي لإسحاق نيوتن، معتبرًا الفلسفة “علمًا تجريبيًا استقرائيًا للطبيعة البشرية”.
أبرز أفكار الرسالة:
- الفهم والشك المنهجي: في الكتاب الأول، وصل هيوم إلى نتيجته الصادمة: المعرفة البشرية محصورة بالكامل في نطاق التجربة الحسية. لا يمكن للعقل أن يتجاوز هذه الحدود، مما يضع علامات استفهام كبيرة حول مفاهيم مثل السببية والواقع الموضوعي.
- العقل عبد للأهواء: قدم الكتاب الثاني تشريحًا معقدًا للعواطف، مجادلاً بأن العقل ليس سوى أداة تخدم الأهواء والرغبات، وهو ما يتعارض مع الاعتقاد السائد بكون العقل هو القوة المسيطرة.
- الأخلاق كشعور: جادل في الكتاب الثالث بأن الخير والشر ليسا حقائق موضوعية، بل هما نتاج لمشاعر الاستحسان أو الاستنكار التي تنتابنا تجاه سلوك معين.
المفارقة التاريخية هي أن هذا العمل الرائد، الذي يُعد اليوم حجر الزاوية في الفلسفة الغربية، قوبل بتجاهل تام عند نشره، ووصفه هيوم بمرارة بأنه “وُلد ميتًا من المطبعة”. ورغم تبرؤ هيوم منه لاحقًا، يظل جوهر “الرسالة” هو نقطة البداية لكل فلسفة لاحقة.
بعد الفشل الأولي لـ “الرسالة”، خاض هيوم تجارب عملية متنوعة، من التدريس الخاص إلى العمل كسكرتير لجنرال عسكري والمشاركة في مهام دبلوماسية.
هذه التجارب، ولا سيما فترة عمله القصيرة في مكتب تاجر سكر، فتحت عينيه على الأهمية الحاسمة للاقتصاد في صياغة الشؤون السياسية والاجتماعية.
هذا الجانب المنسي من عبقريته هو ما سلطت عليه الدراسات الحديثة الضوء، مؤكدة أن اهتمامه بالاقتصاد لم يكن عرضيًا، بل كان جزءًا لا يتجزأ من مشروعه الفلسفي الأكبر لفهم الطبيعة البشرية في سياقها الاجتماعي.
أبرز إسهامات ديفيد هيوم في الاقتصاد الكلاسيكي |
|
نظرية النقد |
–كان هيوم من أوائل من قدموا حجة متكاملة حول “حيادية المال” على المدى الطويل، موضحًا أن زيادة كمية النقود في الاقتصاد تؤدي في النهاية إلى ارتفاع الأسعار فقط، دون تأثير حقيقي على الإنتاج. –وفي الوقت نفسه، كان مدركًا لتأثير المال على المدى القصير في تحفيز النشاط الاقتصادي عبر تغيير توقعات الناس وسلوكهم. –كانت هذه الرؤية المزدوجة سابقة لعصرها لدرجة أنه عندما سُئل الاقتصادي الشهير ميلتون فريدمان في عام 1975 عما تعلمه الاقتصاديون في نظرية النقد خلال 25 عامًا، أجاب بأن السؤال يجب أن يكون: “ما الذي تعلمناه في مئتي عام منذ ديفيد هيوم؟”. |
التجارة الدولية والملكية |
– قدم هيوم تحليلات عميقة حول التجارة، والتنمية، والتمويل العام. وكانت أفكاره حول الملكية بمثابة الجسر الذي ربط بين فلسفته الأخلاقية (التي عرّفت العدالة بأنها احترام الملكية) وبين الاقتصاد السياسي. |
التأثير على آدم سميث |
– لا شك أن صداقته العميقة مع آدم سميث، الذي يُعد “أبو الاقتصاد الحديث”، كان لها أثر كبير. – فالعديد من الأفكار التي ظهرت لاحقًا في كتاب سميث “ثروة الأمم” يمكن تتبع جذورها إلى مقالات هيوم الاقتصادية، مما يجعل هيوم بمثابة الجد الروحي للاقتصاد الكلاسيكي. |
في مقالاته التي جُمعت في كتاب “الخطابات السياسية” (1752)، قدم هيوم تحليلات اقتصادية عميقة وضعت أسسًا للعديد من النظريات التي أصبحت لاحقًا من ركائز علم الاقتصاد الكلاسيكي، مؤثراً بشكل مباشر على صديقه آدم سميث في كتابه “ثروة الأمم”.
إسهامات هيوم الاقتصادية الرئيسية:
- آلية تدفق النقد الأجنبي: شرح كيف أن الزيادة في المعروض النقدي في بلد ما لا تؤدي إلا إلى ارتفاع الأسعار (تضخم)، مما يجعل صادراته أقل تنافسية، وبالتالي يتدفق الذهب (المال) إلى الخارج. كانت هذه أول صياغة منهجية لمفهوم حيادية المال على المدى الطويل.
- التجارة الحرة: كان هيوم مدافعًا قويًا عن فوائد التجارة الدولية المفتوحة، جادل بأن ازدهار الدول المجاورة يعود بالنفع على الجميع، وهو مفهوم يتعارض مع النزعة الحمائية السائدة في ذلك الوقت.
يظل النقاش الأكاديمي قائمًا حول مركزية الاقتصاد في فكر هيوم: هل كان الاقتصاد هو بوصلته الفلسفية، أم مجرد تطبيق لـ “علم الطبيعة البشرية” الأساسي؟
في الواقع، تكمن عبقرية هيوم في رؤيته المتكاملة للإنسان: لا يمكن فهم سلوكنا العقلي (الفلسفة) بمعزل عن عواطفنا (الأهواء)، ولا يمكن فهم سلوكنا الاجتماعي والسياسي بمعزل عن طريقة تنظيمنا لحياتنا المادية (الاقتصاد).
كان ديفيد هيوم الفيلسوف الذي علمنا حدود العقل البشري، والاقتصادي الذي كشف لنا عن منطق السوق الخفي.
وفي النهاية، ترك بصمات لا تُمحى على مسارين رئيسيين من مسارات الفكر الإنساني، ليؤكد أن أعمق التساؤلات الفلسفية غالبًا ما تجد إجاباتها في أدق التفاصيل المادية للحياة اليومية.