تكنولوجيا

شهادة الكيانات غير البشرية..إعادة تعريف الحقيقة في عصر الذكاء الاصطناعي

في ظل التقدم الرقمي المتسارع، حيث أصبحت الكيانات غير البشرية، مثل الأجهزة الذكية والطائرات المسيرة والخوارزميات المعقدة، جزءًا أساسيًا من حياتنا اليومية والسياسية، يطرح المفكر مايكل ريتشاردسون في كتابه “شهادة الكيانات غير البشرية: الحرب والبيانات والبيئة في أعقاب نهاية العالم” سؤالًا بالغ الأهمية يتعلق بماهية “الإدلاء بالشهادة” في زمن الذكاء الاصطناعي الذي يشهد توسعًا مستمرًا.

تتداخل في العصر الحالي التقنيات مع وجود الإنسان بشكل غير مسبوق، مما يثير تساؤلاً عن من (أو ما) يحق له أن يُدلي بالشهادة في هذا السياق التكنولوجي الجديد.

و ينطلق ريتشاردسون من نقده للتصورات التقليدية التي حصرَت فعل الإدلاء بالشهادة في حدود التجربة الإنسانية وحدها، مُؤكدًا أن هذا الفهم لم يعد كافيًا لاستيعاب التداخل المعقد بين البشر وغير البشر في إنتاج المعرفة وتوثيق الأحداث.

ووفقًا لهذا الطرح، يُعَتَبر الإدلاء بالشهادة عملية تشاركية تتجاوز البشر لتشمل الآلات، والخوارزميات الذكية، والبيئات الرقمية والمادية على حد سواء.

يشير ريتشاردسون إلى أن اختزال الشهادات الصادرة عن الكيانات غير البشرية إلى “أدلة” تفتقر إلى قيمة تفسيريّة بشرية، يُعدّ انتقاصًا كبيرًا من فاعليتها المعرفية والسياسية، لا سيّما في ظل الحروب البيئية والتكنولوجية المتزايدة.

AI and Christianity – The Bible Study

يقترح ريتشاردسون أن “شهادة الكيانات غير البشرية” هي أداة تحليلية رئيسية لفهم التفاعل المعرفي والأخلاقي بين الإنسان والتقنية.

في هذا السياق، تصبح الطائرات المسيرة، كاميرات المراقبة، أجهزة الاستشعار، والخوارزميات الذكية أطرافًا فاعلة في إنتاج الحقيقة، لا مجرد أدوات جامدة.

وعلى الرغم من هذا التحول العميق، لا يستبعد هذا التغيير الإنسان من المشهد، بل يعيد تموضعه في شبكة معقدة تشمل التقنيات، المشاعر الإنسانية، الاعتبارات البيئية، والأبعاد السياسية.

يُقدم الكتاب أربعة فصول رئيسية، ينتقل فيها ريتشاردسون بين ميادين الحروب التكنولوجية، البيئات الرقمية الغامرة، والكوارث المناخية المدمرة.

في الفصل الأول، يستعرض “النظرة القتالية” التي تُعَبر عن كيف تستخدم التقنيات الحديثة، مثل التصوير الحراري والذكاء الاصطناعي، لإعادة تعريف مفهوم الفاعلية في الحروب. في الفصل الثاني، يناقش كيف تساهم خوارزميات التعلم الآلي في خلق عوالم افتراضية تثير التفاعل العاطفي والمعرفي.

أما الفصل الثالث، فينقل النقاش إلى تهديدات الكوارث البيئية والنووية، حيث يبرز دور الأنظمة البيئية في تمثيل الصدمة البيئية، ليس من خلال تمثيل مادي مباشر، بل عبر تأثيرات وجدانية غير ملموسة. بينما يتناول الفصل الرابع موضوع الوساطة الرقمية، مستخدمًا تحليلًا معمقًا لظواهر معاصرة مثل فيديوهات داعش الدعائية واختفاء الطائرة الماليزية MH370.

من المفاهيم الرئيسية في الكتاب مفهوم “الغياب الجذري”، الذي لا يعني العدم، بل هو حضور فعّال لحدث أو كيان غير قابل للرصد بالحواس التقليدية.

يربط ريتشاردسون بين الشهادة والوساطة، مشيرًا إلى دور الترجمة الرقمية في إعادة إنتاج الحقيقة، مما يفتح المجال لمقاربة أوسع حول كيف يمكن للآلات والبيانات غير البشرية أن تشهد وتؤثر على الذاكرة الجمعية.

يرفض ريتشاردسون الادعاءات حول حياد الخوارزميات، موضحًا أنها ليست أدوات موضوعية كما يُزعم، بل تعمل على تعزيز النظم السلطوية والطبقية، وتعكس هيمنة تكنولوجية تتظاهر بالحياد. مستفيدًا من أفكار مفكرين مثل سيلفيا وينتر وسافيا نوبل، يوضح أن الخوارزميات، على الرغم من ادعاء حيادها، تُعيد إنتاج الهيمنة البشرية والتكنولوجية.

يُعد الكتاب دعوة لإعادة التفكير في كيفية إنتاج المعرفة وتشكيل الحقائق. من خلال مزيج من الفلسفة، وعلوم البيئة، ودراسات الإعلام، يفتح الكتاب أفقًا جديدًا لفهم كيف يمكن للآلات، البيئات الرقمية، والبيانات أن تشارك في عملية الشهادة. وهو يقدم منظورًا مغايرًا في عصر تتداخل فيه الحدود بين الإنسان والتقنية.

يمثل كتاب “شهادة الكيانات غير البشرية” مصدرًا غنيًا للمفكرين والباحثين في ميادين الإعلام المتجددة، ودراسات التقنية، والبيئة، والأمن، ويفتح آفاقًا جديدة في التفكير حول من (أو ما) يشهد في عالمنا المعاصر.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى