من النيوليبرالية إلى الشعبوية: كيف ولدت الحرية المتوحشة خصومها؟

تخيل عالماً تتحكم فيه فكرة واحدة في كل القرارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، حتى تصبح بوصلة لكل الحكومات والمؤسسات الدولية.
هذا هو العالم الذي حكمته النيوليبرالية لأكثر من أربعين عامًا، منذ انطلاقها في الثمانينيات من واشنطن ولندن بقيادة رونالد ريجان ومارجريت تاتشر، حيث ارتبطت بالخصخصة المكثفة، وتقليص الخدمات الاجتماعية، وتخفيف الضرائب عن الأثرياء، وتقويض نفوذ النقابات، وفتح الأسواق بلا قيود.
لكن هذه الهيمنة لم تخلُ من مفاجآت. فقد ظهر خصم جديد على الساحة السياسية: تيار يميني شعبوي قومي، يرفع شعار حماية الحدود ويشكك في المؤسسات الدولية، وكأنه نقيض كامل لما فرضته النيوليبرالية.
السرد التقليدي فسّر هذا التيار على أنه رد فعل ضد العولمة. لكن المؤرخ كوين سلوبوديان في كتابه الصادم “أبناء هايك: الجذور النيوليبرالية لليمين الشعبوي” يقدّم رؤية مختلفة، تقول إن هذا التيار لم ينبع من العدم، بل هو امتداد مباشر للنيوليبرالية نفسها، نسخة متحوّرة من الفكرة نفسها، لكنها أخذت منحى أكثر تشددًا وقومية.
مع انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط الشيوعية، اعتقد مفكرو النيوليبرالية أن انتصارهم أصبح مطلقًا.
لكن الواقع كان مختلفًا: الإنفاق العام استمر في التوسع، والدولة الاجتماعية لم تنهار، والحركات النسوية وحقوق الإنسان وحماية البيئة شكلت تحديًا لأيديولوجيتهم، بل وحتى الاتحاد الأوروبي أصبح في نظرهم “حصان طروادة اشتراكي”.
لمواجهة المطالب الشعبية المتزايدة بالمساواة، بدأ النيوليبراليون في البحث عن “ثوابت طبيعية” لتبرير سياسات عدم المساواة.
وهنا ظهرت “الاندماجية الجديدة”، حيث تُستخدم العلوم التطورية وعلم الأحياء الاجتماعي والوراثة لإضفاء طابع علمي على رفض سياسات العدالة والمساواة.
مع تغير التركيبة السكانية، خاصة في الولايات المتحدة، بدأ بعض المفكرين النيوليبراليين في صياغة فكرة “الاقتصاد العرقي”، التي تربط النجاح الاقتصادي بالسمات الثقافية أو العرقية، وهو ما شكل قاعدة لتبرير الحدود الصارمة على الهجرة، مع الحفاظ على حرية تدفق رأس المال والسلع.
النهاية كانت ولادة تيارات يمينية شعبوية في أوروبا وأمريكا، مثل “البديل من أجل ألمانيا” و”حزب الحرية النمساوي”. هذه الأحزاب تدافع عن الخصخصة وتحرير الأسواق، لكنها تقيد الهجرة وتروج لفكرة الدولة العرقية.
ما نشهده اليوم إذن ليس صراعًا بين النيوليبرالية ومعارضيها، بل هو خلاف داخلي: صراع بين نسخة عالمية متفائلة من النيوليبرالية ونسخة قومية متشددة ولدت منها.
التيار الشعبوي ليس تهديدًا خارجيًا للعولمة، بل طفرة من داخل نفسها، يحمل نفس الحمض النووي للنيوليبرالية، لكنه أكثر تشددًا وأكثر تمسكًا بالحدود، اقتصاديًا وبشريًا على حد سواء.