سيمون كوزنتس: رائد الاقتصاد القياسي ومؤسس مفهوم الناتج المحلي الإجمالي GDP

هل يمكن اختزال صحة اقتصاد دولة بأكملها في رقم واحد؟ حين نتحدث اليوم عن الناتج المحلي الإجمالي (GDP) أو عن الفجوة الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء، فإننا في واقع الأمر نستلهم أفكارًا من إرث أحد أبرز الاقتصاديين في القرن العشرين: سيمون كوزنتس.
وُلد كوزنتس في أوكرانيا عام 1901، وهاجر إلى الولايات المتحدة حيث أصبح واحدًا من أعمدة الاقتصاد الحديث.
لم يقتصر عمله على جمع الأرقام وتحليلها، بل تجاوز ذلك ليقدّم رؤى نظرية غيرت طريقة فهمنا للنمو الاقتصادي وعلاقته بعدالة توزيع الدخل.
كوزنتس وضع أسس قياس الدخل القومي، ما مكّن الاقتصادات من تقدير إجمالي الناتج الوطني بدقة لأول مرة. وقد كان لعمله أهمية قصوى في فترة الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية، حيث ساعد صنّاع القرار في تحليل القدرة الاقتصادية للبلاد وتوجيه الموارد بفعالية.
كما أسهمت أبحاثه في فهم دور الادخار، الاستهلاك، والاستثمار في دفع الاقتصاد الكينزي وتطوير الاقتصاد القياسي. وقد ساعد أيضًا في دراسة دورات الأعمال، المعروفة باسم “دورات كوزنتس”، التي تمثل تحولات دورية في النشاط الاقتصادي.
أشهر مساهمات كوزنتس تبقى “منحنى كوزنتس”، الذي يربط بين مراحل التنمية الاقتصادية ومستوى عدم المساواة.
وفقًا لنظريته، تبدأ الفجوة بين الأغنياء والفقراء في الاتساع مع انتقال العمالة من الريف إلى المدن في مرحلة التصنيع (حيث يستفيد البعض مبكرًا من الفرص الجديدة)، لكنها تبدأ في التقلص عند بلوغ الاقتصاد مرحلة ناضجة، مع تدخل الدولة في تحسين رفاهية المجتمع من خلال التعليم والرعاية الاجتماعية والضرائب التصاعدية.
يُصوَّر هذا المسار على شكل منحنى على شكل حرف “” مقلوب.
ومع ذلك، لم تتطابق التجارب الحديثة مع توقعات كوزنتس بالكامل؛ فبينما شهدت بعض الدول المتقدمة زيادة في عدم المساواة في العقود الأخيرة، حققت بعض دول شرق آسيا انخفاضًا مستمرًا في الفجوة الاقتصادية خلال التصنيع السريع، مما يشير إلى دور السياسة والإصلاحات الاجتماعية في تعديل النتائج الاقتصادية.
وقد أثار هذا التباين نقاشًا واسعًا حول أهمية المؤسسات والسياسات الموجهة لضمان أن النمو لا يأتي على حساب العدالة.
في تسعينيات القرن الماضي، تم تعديل فكرة كوزنتس لتشمل البيئة، فظهر ما يُعرف باسم “منحنى كوزنتس البيئي” (EKC)، الذي يوضح أن مستويات التلوث ترتفع في المراحل المبكرة للتصنيع قبل أن تبدأ في الانخفاض مع التطور التكنولوجي وزيادة الوعي البيئي والقدرة على تحمل تكاليف التقنيات النظيفة.
رغم انتشار هذا المفهوم، لا تزال الأدلة التجريبية حوله متباينة، إذ تشير بعض الدراسات إلى أن الانبعاثات الضارة تستمر في الارتفاع في العديد من الدول، في حين تظهر بعض التحسينات على أنواع معينة من الملوثات، مثل ثاني أكسيد الكبريت في الولايات المتحدة.
وقد تعرض المنحنى البيئي لانتقادات لافتراضه أن النمو وحده سيحل المشكلات البيئية دون تدخل سياسات جادة.
توفي كوزنتس في 1985 بعد حياة علمية حافلة، وتكريمًا لأعماله، مُنح جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1971. لكنه ترك إرثًا لا يزال حاضرًا في كل نقاش اقتصادي حول النمو والعدالة.
من خلال تطويره لمفهوم الناتج المحلي الإجمالي ونظريته حول منحنى كوزنتس، أصبح اسمه مرادفًا لفهم العلاقة المعقدة بين التطور الاقتصادي وتوزيع الثروة، وللتحديات التي تواجهها الدول في تحقيق التنمية المستدامة والمساواة الاقتصادية.
باختصار، سيظل سيمون كوزنتس مرجعًا أساسيًا لكل من يسعى لفهم ديناميكيات النمو الاقتصادي وتأثيرها على المجتمعات، سواء على مستوى الدخل أو البيئة أو السياسة الاقتصادية.
إن عمله يذكّرنا بأن الرقم الاقتصادي الأكبر ليس هو الهدف الأوحد، بل يجب النظر دائمًا إلى من يستفيد منه وكيف يؤثر على حياة الأفراد.