الاقتصادية

زراعة المستقبل…كيف تحولت أزمة البن العالمية إلى بصيص أمل؟

في قلب فيتنام الخضراء، حيث تعانق حقول الشاي الخصبة التلال، تبدأ قصة شاب طموح يُدعى “ترينه تان تان”. في الثمانينيات من القرن الماضي، وجد تان نفسه في مفترق طرق.

فبينما كان إرث عائلته من مزارع الشاي لا يكفي لتأمين مستقبله، كانت موجة “الذهب الأخضر” الجديد، أي البن، تجتاح قريته حاملة وعودًا بالثراء السريع.

مثل العديد من جيرانه، استبدل تان أشجار الشاي القديمة بصفوف من شتلات البن، حالمًا بحياة أفضل وحصاد وفير.

لم يكن يعلم حينها أن هذا الحلم سيقوده إلى حافة الإفلاس البيئي والاقتصادي.

كان نهج “الزراعة الأحادية المكثفة” هو السائد، وهو نموذج يعتمد على زراعة محصول واحد على مساحات واسعة باستخدام كميات هائلة من المواد الكيميائية. انغمس تان في هذا السباق المحموم نحو الإنتاجية، فرَشَّ حقله بالمبيدات الحشرية ثماني مرات في العام الواحد.

هذا السلاح الكيميائي كان سيفًا ذا حدين؛ فبينما قضى على الآفات، قضى أيضًا على الكائنات الحية النافعة التي تشكل خط الدفاع الطبيعي للتربة، مثل العناكب والخنافس.

بهذا التدخل، تحطم التوازن البيولوجي، ووجد تان نفسه في دائرة مفرغة: كل رشة مبيد تجعل الآفات في الموسم التالي أكثر شراسة ومقاومة، مما يدفعه إلى استخدام المزيد من الكيماويات.

لم تكن الآفات وحدها من تأثرت، بل بدأت الأرض نفسها تئن. تدهورت صحة التربة وخصوبتها، وتحولت من نظام بيئي غني بالحياة إلى مجرد تربة خاملة.

The Future of Agriculture is in Smart Farming | GMO Research & AI

بدلًا من جني الأرباح، وجد تان نفسه ينفق المزيد من المال على الأسمدة والمبيدات لمجرد الحفاظ على مزرعته من الانهيار.

قصة تان ليست مجرد حكاية فردية، بل هي مرآة تعكس أزمة زراعية عالمية عميقة. نموذج الزراعة الأحادية الذي كاد يدمر مزرعته الصغيرة يهيمن اليوم على الزراعة حول العالم، وتكشف الأرقام عن حجم الكارثة:

  • استنزاف المياه: يستهلك القطاع الزراعي 70% من المياه العذبة، مما يجعله المحرك الرئيسي لندرة المياه حول العالم.
  • تدمير التنوع البيولوجي: التوسع الزراعي هو التهديد الأول لفقدان التنوع البيولوجي، حيث يهدد 9 من كل 10 أنواع مهددة بالانقراض.
  • تدهور الأراضي: 20% من الأراضي الزراعية في العالم تعاني حاليًا من التدهور، مما يؤدي إلى انخفاض غلة المحاصيل ودخل المزارعين.

في خضم هذه الأزمة، يقف صغار المزارعين كالحلقة الأضعف. ورغم أنهم ينتجون جزءًا كبيرًا من الغذاء العالمي، فإن الكثيرين منهم لا يكسبون ما يكفي لتأمين حياة كريمة.

ومع تفاقم تغير المناخ، أصبحت سبل عيشهم على المحك.

في مواجهة هذه الصورة القاتمة، يبرز بصيص أمل يحمل في طياته حكمة الأجداد وحلول المستقبل: الزراعة التجديدية. هذا المفهوم ليس مجرد استدامة، بل هو فلسفة زراعية تسعى إلى العمل بانسجام مع الطبيعة لإحياء وتجديد النظم البيئية المتدهورة.

وفقًا لـ “تحالف الغابات المطيرة”، ترتكز الزراعة التجديدية على مبادئ واضحة وممارسات علمية تهدف إلى:

  • تحسين صحة التربة وخصوبتها: عبر تغذيتها بالمواد العضوية بدلًا من استنزافها.
  • دعم نقاء المياه: من خلال تقليل جريان المواد الكيميائية السطحي.
  • تخزين الكربون في التربة: للمساهمة في التخفيف من آثار تغير المناخ.
  • الحفاظ على أنظمة بيئية صحية: عبر تعزيز التنوع البيولوجي.

هذه الممارسات ليست جديدة، بل هي صدى لتقنيات عرفتها الشعوب الأصلية لآلاف السنين، مثل:

  • الحراجة الزراعية: زراعة المحاصيل بطريقة تحاكي الغابة، حيث توفر الأشجار الظل والعناصر الغذائية.
  • محاصيل التغطية: زراعة نباتات لحماية التربة وتحسين بنيتها.
  • تقليل الاعتماد على المدخلات الاصطناعية: مثل الأسمدة والمبيدات.

بالنسبة لتان، كانت نقطة التحول في عام 2008، عندما قرر تبني الممارسات التجديدية. بدأ بزراعة الفول السوداني بين أشجار البن، واستخدم السماد العضوي، واعتمد نهجًا متكاملًا لإدارة الآفات. واليوم، ازدهرت مزرعته وأصبحت تربتها غنية وخصبة.

الأهم من ذلك، زاد دخله السنوي بنسبة 40% مقارنة بجيرانه الذين ما زالوا يتبعون النهج التقليدي.

إن نجاح تان ليس صدفة، بل هو نتيجة تدعمها البيانات والأبحاث. فقد أظهرت نتائج منظمة “تكنوسيرف” الدولية أن الممارسات التجديدية يمكن أن ترفع دخل المزرعة بشكل كبير، مع تحسين صحة التربة وقدرتها على الاحتفاظ بالمياه وإنتاجيتها على المدى الطويل.

إدراكًا لأهمية تسريع هذه الثورة، أطلق “تحالف الغابات المطيرة” “معيار الزراعة التجديدية” الجديد، وهو إطار علمي شامل يقيس التقدم عبر 5 مجالات رئيسية:

  1. صحة التربة وخصوبتها.
  2. القدرة على التكيف مع تغير المناخ.
  3. التنوع البيولوجي.
  4. الإشراف على المياه.
  5. سبل العيش للمزارعين.

بينما يتوفر المعيار حاليًا لمحصول البن، يخطط التحالف لتوسيعه ليشمل محاصيل أخرى مثل الكاكاو والشاي بحلول عام 2026. يمكن للشركات أن تنضم إلى هذا التحول التجديدي من خلال تمويل عملية الانتقال وتدريب المزارعين.

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى