رأس المال المفقود.. كيف يمكن للقوانين تحويل الفقراء إلى محرك اقتصادي عالمي

بينما تستهلك تقارير المليارديرات عناوين الصحف، هناك جانب آخر أقل شهرة لكنه أكثر تأثيرًا: الثروة التي يمتلكها الفقراء ويظلّ معظمها خارج النظام الاقتصادي الرسمي.
الاقتصادي البيروفي هيرناندو دي سوتو يسلط الضوء على هذه الظاهرة، موضحًا أن الفقر لا يعني بالضرورة غياب الأصول، بل غياب الاعتراف القانوني بها.
يشير دي سوتو إلى أن ملايين الفقراء يملكون منازل وأراضٍ ومشروعات صغيرة، لكنها غالبًا لا تحمل سندات ملكية رسمية، ما يجعلها غير قابلة للاستخدام في الاقتصاد الرسمي. ويسمي هذه الثروات بـ«رأس المال الميت»: أصول موجودة فعليًا لكنها عاجزة عن الحركة الاقتصادية.
في دراسة عام 2000، قدّر دي سوتو قيمة هذا الرأس المال بنحو 9.3 تريليون دولار، أي ما يعادل حوالي 28% من الدخل الفردي العالمي آنذاك.
وإذا تم دمج هذه الأصول في النظام الاقتصادي، يمكن أن تولد عائدًا سنويًا يبلغ 1.5 تريليون دولار، وهو مبلغ كافٍ لتحسين حياة ملايين البشر في إفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط، حيث يعيش الكثيرون على بضع مئات من الدولارات سنويًا.
يرى دي سوتو أن الفارق الأساسي بين الدول الغنية والفقيرة لا يكمن في الموارد، بل في الإطار القانوني الذي يحمي الملكية.
ففي الدول الغربية، يمكن تحويل الأصول إلى رأس مال منتج يمكن الاستثمار فيه أو توريثه أو بيعه، بينما في الدول النامية تبقى الملكية غير مسجلة وغير قابلة للتداول، فتظل الثروة حبيسة الاقتصاد غير الرسمي.
فالمنزل غير المسجل لا يمكن استخدامه كضمان للحصول على قرض، والمشروع غير المعترف به قانونيًا لا يجذب المستثمرين، والأرض بلا سند ملكية لا يمكن بيعها بسهولة. النتيجة أن ملايين الفقراء يمتلكون ثروات حقيقية لكنها غير مستغلة.
تُظهر تجربة الصين بعد اعتماد قانون الملكية عام 2007 صحة نظرية دي سوتو. منح القانون الاعتراف القانوني للملكية الخاصة، فظهرت شركات جديدة وتوسع الإنتاج، وأصبح رأس المال غير المستغل قوة دافعة للنمو الاقتصادي، ما ساهم في تحويل الثروة غير الرسمية إلى أداة إنتاجية فعّالة.
ينتقد دي سوتو النماذج التنموية التقليدية التي تُفرض من الأعلى إلى الأسفل، مقترحًا نهجًا يبدأ من الواقع المحلي ويهدف إلى دمج الاقتصاد غير الرسمي ضمن الإطار القانوني، عبر ثلاث خطوات رئيسية:
رصد الأصول غير الرسمية: وضع خريطة دقيقة للمنازل والأراضي والمشروعات الصغيرة لتكوين قاعدة بيانات شاملة.
إصلاح الإطار القانوني: منح سندات ملكية رسمية وتقليل التعقيدات البيروقراطية.
مؤسسات قوية وشفافة: حماية الحقوق ومتابعة التسجيل، لبناء ثقة المواطنين في النظام الجديد.
يؤكد دي سوتو أن الرأسمالية ليست عدوة للفقراء، بل يمكن أن تمنحهم القدرة على المشاركة الاقتصادية بفعالية إذا كانت هناك قوانين تحمي الملكية الفردية.
المشكلة ليست في غياب الثروة، بل في غياب الاعتراف القانوني بها. بتقنين الملكيات، يمكن للفقراء أن يصبحوا فاعلين اقتصاديين حقيقيين، قادرين على الاستثمار والنمو والمساهمة في السوق.
ويختتم دي سوتو بالقول:
“لن نقضي على الفقر دون تحرير الثروة المقيّدة في الاقتصاد غير الرسمي، ومنح الفقراء الأدوات القانونية التي تجعلهم قادرين على أن يصبحوا رأسماليين في مجتمعاتهم.”
أفكار دي سوتو تقدم خارطة طريق لتحويل الاقتصاد غير الرسمي إلى قوة إنتاجية، من خلال التركيز على تفعيل الثروة الميتة بدلاً من مجرد توزيعها، ما يفتح المجال أمام ملايين الفقراء ليصبحوا شركاء حقيقيين في النمو الاقتصادي العالمي.




