الاقتصادية

العولمة في مفترق الطرق…من الإشاعات عن الأفول إلى تجدد النموذج العالمي

في ظل النقاشات المحتدمة حول مستقبل النظام العالمي، وسط تصاعد الحروب التجارية وارتفاع معدلات الرسوم الجمركية، يبدو أن جائحة كورونا جاءت لتضع نقطة فاصلة في مسار العولمة.

لكن قراءة أعمق تكشف أن العولمة ليست في طريقها إلى الانهيار، بل تمر بمرحلة تحول ونضوج تعيد تشكيل ملامحها لتصبح أكثر مرونة واستدامة.

السردية الشائعة عن “انهيار العولمة” تستند إلى تداعيات فرض الرسوم الجمركية الأمريكية غير المسبوقة، وأثر الجائحة الذي فضح هشاشة سلاسل الإمداد العالمية.

لكن الحقبة التي تميزت بالتجارة المفتوحة بلا قيود، التي تبعت سقوط جدار برلين وانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، حيث سيطرت شهية الاستهلاك الأمريكية على المشهد، قد انتهت.

تلك الفترة خلفت ترابطاً عميقاً اعتمد على أنظمة إنتاج مترابطة لكنها عُرضة للمخاطر.

ما يحدث اليوم هو إعادة تشكيل للنموذج التجاري العالمي نحو نسخة أكثر ذكاء ودقة. لا تزال قوى السوق قائمة بقوة؛ فالمستهلكون يطالبون بخيارات أوسع وأسعار تنافسية، والشركات تواصل البحث عن طرق لتعزيز الكفاءة وخفض التكاليف، ما يجعل التجارة محوراً رئيسياً لازدهار الاقتصاد العالمي حتى مع تباطؤ معدلات النمو مقارنة بالعقود السابقة.

فرضت جائحة كوفيد-19 اختباراً صعباً على الشبكات التجارية العالمية، التي أظهرت مرونة كبيرة في التكيف مع اضطراب غير مسبوق، حيث تمكنت من إيصال السلع الأساسية رغم التحديات.

ومع ذلك، كشفت الجائحة أيضاً عن الاعتماد المفرط على مواقع جغرافية محددة، والمبالغة في تحسين الكفاءة على حساب القدرة على التكيف والمرونة.

من رحم هذه الأزمة، برز مبدأ “الصين + 1″، الذي يشجع الشركات على تنويع مصادر التوريد بدلاً من الاعتماد الكلي على الصين، ما يعكس وعيًا متزايدًا بأهمية توزيع المخاطر لتجنب انقطاعات مستقبلية باهظة التكاليف.

السياسات الحمائية، خاصة الأمريكية، تعيد رسم خارطة التجارة، لكنها ليست خالية من الآثار السلبية. فهي توفر حماية لشركات محلية أقل كفاءة، لكنها في الوقت نفسه تضع الشركات الأمريكية الرائدة في مواجهة مخاطر، كما أن المستهلكين الأمريكيين يتحملون العبء الأكبر لهذه الرسوم من خلال ارتفاع الأسعار وقلة الخيارات.

علاوة على ذلك، يخلق هذا المناخ من عدم اليقين عائقاً أمام الاستثمارات طويلة الأمد، ويجعل من الصعب تحقيق هدف “إعادة توطين” الصناعات داخل البلاد.

فصل العلاقات الاقتصادية بين عملاقي الاقتصاد، الولايات المتحدة والصين، ليس أمراً بسيطاً. فقد استغرقت الشركات عقودًا لبناء شبكات إنتاج معقدة تستفيد من مزايا كل دولة. هذا التشابك دفع الطرفين لعقد “هدنة” مؤقتة، مدركين حاجتهما المتبادلة، خصوصاً في قطاعات استراتيجية مثل المعادن النادرة والرقائق الإلكترونية.

Globalization, Interventions, and Internationalism: America's Foreign  Policy Conundrum | YIP Institute

ما يشهده العالم الآن هو إدارة هذه المسافة بطريقة تكتيكية، يسعى كل طرف خلالها لتقليل اعتماده تدريجياً، وهو مسار مكلف يهدد الكفاءة ويزيد من الازدواجية، كما يقيد تبادل الأفكار والابتكارات التي كانت من محركات التطور التكنولوجي.

بعيداً عن الانكماش والتراجع، يشهد العالم حركة نشطة في تشكيل اتفاقيات تجارية ثنائية وإقليمية أكثر مرونة وانفتاحاً، حيث تتفوق الاتفاقيات الجديدة على القيود المفروضة.

أمثلة واضحة على هذا الاتجاه تشمل اتفاق الاتحاد الأوروبي مع تكتل “ميركوسور”، وسعي الدول الكبرى للانضمام إلى اتفاقية “الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ” (CPTPP)، والاتفاقيات التي أبرمتها المملكة المتحدة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.

تركز هذه التحالفات الجديدة على الأسواق الناشئة ذات الكثافة السكانية الشابة، حيث تتركز فرص النمو المستقبلية.

إن الحديث عن نهاية العولمة لا يعكس الواقع؛ فهي ببساطة تتباطأ لتتطور نحو نموذج أكثر حكمة وتوازناً.

تدعم التكنولوجيا والتجارة الرقمية والتغيرات الديموغرافية واتساع الثروة العالمية هذه العملية، مما يمنح الأفراد والشركات خيارات أوسع وأسعاراً أفضل.

بدلاً من بناء جدران حمائية، يتعين على صناع السياسات التركيز على تقليل تكاليف التجارة ومعالجة الأخطاء السابقة بذكاء، لأن العولمة لا تحتضر، بل تُعاد ولادتها بصورة أكثر مرونة واستدامة.

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى