الاقتصادية

صناعة المال العالمية…تباين السياسات النقدية يعيد تشكيل خارطة الأسواق

بعد أزمة مالية عالمية ضربت الأسواق منذ أكثر من عقد، اضطرت البنوك المركزية إلى تبني سياسة نقدية غير مسبوقة: أسعار فائدة قريبة من الصفر.

هذه السيولة الرخيصة أغرقت الأسواق، ودفعت المستثمرين إلى مغامرات بحثاً عن عوائد أعلى، ما غيّر قواعد اللعبة الاقتصادية.

اليوم، وبعد سنوات من الخروج التدريجي من تلك المرحلة، يلوح في الأفق سؤال جديد: هل تعيدنا البيانات الاقتصادية الأخيرة إلى “زمن الصفر”؟

على عكس ما حدث بعد أزمة عام 2008، لم يعد المشهد متشابهاً. فقرارات البنوك المركزية لم تعد مجرد تحديد لتكلفة الاقتراض، بل أصبحت مرآة تعكس الثقة في الأسواق العالمية وتتحكم في تدفقات رؤوس الأموال.

والآن، يتأرجح العالم بين خفضٍ متوقع لأسعار الفائدة، وخوف من شبح “زمن الصفر” الذي لا يزال يلاحق المستثمرين.

في الولايات المتحدة، تتزايد التوقعات بأن بنك الاحتياطي الفيدرالي سيبدأ قريباً في خفض أسعار الفائدة.

وتأتي هذه التوقعات بعد أن أظهرت البيانات تباطؤاً ملحوظاً في سوق العمل، حيث كشفت المراجعات الأخيرة عن إضافة وظائف أقل بـ 911 ألف وظيفة عما كان معلناً في الفترة بين أبريل 2024 ومارس 2025.

هذه الأرقام أرسلت إشارات واضحة للأسواق بأن الاقتصاد الأمريكي بحاجة ماسة لجرعة من الدعم عبر خفض تدريجي للفائدة، خاصة بعد أن أبقى الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة عند مستوى 4.25% – 4.5% للمرة الخامسة على التوالي في يوليو الماضي.

وقد بدأت عقود الفيوتشر، التي تعكس رهانات المستثمرين، في تسعير ثلاثة انخفاضات محتملة خلال 2025: الأول في سبتمبر، يليه خفضان آخران في أكتوبر وديسمبر.

وعلى الرغم من هذا المسار التدريجي، يظل المسؤولون في بنك الاحتياطي الفيدرالي حذرين، فالتضخم لم يتراجع تماماً بعد، وهناك ضغوط سعرية محتملة من إنفاق المستهلكين والرسوم الجمركية قد تعيد إشعال شرارة التضخم إذا ما سارت وتيرة الخفض بشكل أسرع من اللازم.

في أوروبا، يختلف المشهد تماماً. فبينما يتباطأ النشاط الصناعي ويتراجع التضخم عن ذروته، لا يزال البنك المركزي الأوروبي يتبنى موقفاً أكثر تحفظاً.

فأسعار الفائدة الحالية، رغم كونها أقل بكثير من ذروة 3.75% في 2024، لا تزال مرتفعة، ولا يتوقع المحللون أي خفض كبير وسريع في الأفق القريب.

هذا التريث الأوروبي يؤثر على قيمة اليورو، حيث يتحرك في نطاقات محدودة مقابل الدولار، كما يجعل الأسهم الأوروبية أكثر حذراً مقارنة بنظيرتها الأمريكية التي تستفيد من آمال التيسير النقدي.

على النقيض تماماً، تمثل اليابان الاستثناء الأبرز. فبعد عقود من أسعار الفائدة السلبية، بدأ بنك اليابان في ربيع 2024 برفعها تدريجياً، لتصل إلى 0.5%، وهو ما يمثل تحولاً تاريخياً.

والسبب الرئيسي لهذا المسار المعاكس هو أن التضخم في اليابان لا يزال أعلى من الهدف المنشود، مدعوماً بارتفاع ملحوظ في الأجور. هذه السياسة قد تعزز من قيمة الين الياباني، خاصة إذا استمر الفيدرالي الأمريكي في مسار الخفض.

أما في بريطانيا، فيتخذ بنك إنجلترا مساراً وسطاً بين مكافحة التضخم ودعم النمو. فبعد سلسلة من رفع الفائدة في عامي 2022 و2023، بدأ البنك في مسار خفض تدريجي منذ مطلع 2025.

مستويات الفائدة الحالية لأبرز البنوك المركزية في العالم:

البنك المركزي

سعر الفائدة الأساسي الحالي (%)

الملاحظات

الاحتياطي الفيدرالي

4.25 – 4.5

نطاق ثابت منذ يوليو 2025

البنك المركزي الأوروبي

2 – 2.15

بعد خفض تدريجي

بنك إنجلترا

4.00

خُفض في غشت 2025

بنك اليابان

0.50

أوصى بالاستقرار بعد رفعه في يناير 2025

البنك الوطني السويسري

0.00

خُفض في يونيو 2025

لكنه يواجه تحديات اقتصادية مثل النمو البطيء وتباطؤ سوق العقارات، ويتوقع المحللون أن يُبقي البنك على مستويات الفائدة الحالية لفترة أطول نسبياً، مع احتمال خفض محدود في أوائل 2026.

هذا التباين في السياسات النقدية يرسم ملامح مرحلة جديدة للأسواق العالمية، حيث يزيد من تقلبات أسعار الصرف ويعقد قرارات الاستثمار.

  • الأسهم الأمريكية: قد تحصل على دفعة قوية إذا ما استمر الفيدرالي في خفض الفائدة، ما قد يؤثر على الدولار.
  • الذهب والسندات: قد تجذب المستثمرين في أوروبا، حيث يترك تردد البنك المركزي الأوروبي الأسواق في حالة ترقب.
  • الين الياباني: قد يواصل قوته أمام الدولار واليورو، مدعوماً بمسار التشديد النقدي.

في النهاية، يظل التحدي الأكبر هو مخاطر التضخم. فإذا ما بقيت معدلات الأسعار أعلى من المستهدف، فإن قدرة البنوك المركزية على مواصلة الخفض ستتراجع.

ومع ذلك، تبقى ذكرى “زمن الصفر” حاضرة، كتذكير بأن الصدمات الكبرى وحدها هي التي قد تعيد عقارب السياسة النقدية إلى تلك المرحلة الاستثنائية. فهل يمتلك العالم الأدوات والوعي اللازم لتجنب ذلك، أم أننا على موعد مع أزمة جديدة تعيدنا إلى تلك النقطة الصفرية؟

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى