نظرة على استراتيجيات بافت: هل يتهيأ المستثمر الحكيم لانهيار قريب في الأسهم أم لأزمة اقتصادية عميقة؟
“من الحكمة بالنسبة للمستثمرين أن يخافوا عندما يكون الآخرون في السوق جشعين، وأن يكونوا جشعين عندما يكون الآخرون خائفين”، كانت هذه نصيحة الملياردير “وارن بافت” للمستثمرين في خضم الأزمة المالية عام 2008.
لا شك أن مسيرة “بافت” الاستثمارية ونجاحه المذهل في تعظيم الثروة وتحقيق العائدات، أكسباه ثقة كبيرة بين المستثمرين وسمعة كأحد أبرز حكماء سوق الأسهم، وهذا يعني بطبيعة الحال أن فلسفته باتت مرجعًا وأفعاله أصبحت مؤشرًا بالنسبة للكثيرين.
وفي أغسطس، كشف الملياردير عن بيع شركته “بيركشاير هاثاواي” نحو نصف حصتها في أسهم “آبل” أو ما تتجاوز قيمته 75 مليار دولار خلال الربع الثاني، في مفاجأة أربكت السوق، لطالما أكد “بافت” أن صانعة “أيفون” هي أفضل استثماراته وركيزة أساسية في محفظته.
ولم يكن بيع أسهم “آبل” مفاجئًا، حيث كان هذا الربع السابع على التوالي الذي تبيع فيه “بيركشاير” أسهم الشركة، لكن المقدار كان ضخمًا، ودفع حصيلة السيولة النقدية لدى “بافت” إلى مستوى قياسي يتجاوز 270 مليار دولار.
تطور السيولة النقدية لدى بيركشاير هاثاواي |
|
عام |
مقدار الكاش (مليار دولار) |
2010 |
38 |
2011 |
68 |
2012 |
83 |
2013 |
77 |
2014 |
90 |
2015 |
97 |
2016 |
86 |
2017 |
116 |
2018 |
112 |
2019 |
128 |
2020 |
138 |
2021 |
146 |
2022 |
128 |
2023 |
167 |
2024 |
277 |
إن تسريع وتيرة بيع السهم “الأفضل” في محفظة “بافت”، وارتفاع الكاش إلى مستوى قياسي ربع تلو الآخر، وبيع الملياردير حصصًا في مجموعة من أفضل استثماراته، كلها إشارات تثير ظنونًا بأنه يستشعر خطرًا ما قادم.
وفيما يلي نحاول أن نغوص في أفكار الملياردير الحكيم، آملين العثور على الدوافع الحقيقية وراء تحركاته الأخيرة، وما إذا كانت تدعو حقًا للقلق.
هل من انهيار قادم؟
– إلى جانب أسهم “آبل”، باع “بافت” 20% من حصته في “بنك أوف أمريكا”بين يوليو وسبتمبر، أو ما قيمته 8 مليارات دولار، كما خفض حصته في “بي واي دي” إلى ما دون حد الإفصاح البالغ 5% من 20% عند الذروة.
– باع أيضًا أسهم بقيمة مليارات الدولارات هذا العام في شركات مثل “تي موبايل”، و”كابيتال وان بنك”، و”سنوفليك” و”باراماونت جلوبال” لكن هل هذا يعكس قلق لدى المستثمر المخضرم؟
– قدم الملياردير في عام 2001 ما وصفه بـ “أفضل مقياس منفرد لتقييمات الأسهم”، والذي عرف لاحقًا بـ “مؤشر بافت” ويوضح ما إذا كان الشركات مقومة بأقل أو أكثر من قيمتها، عن طريق مقارنة القيمة الإجمالية للسوق الأمريكي بحجم الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة.
– منذ أواخر يوليو، وصلت قراءة المؤشر إلى نحو 196%، متجاوزة المستويات المسجلة قبل انفجار فقاعة “دوت كوم” وقبل الأزمة المالية العالمية بفارق كبير، ومقتربة من مستويات ما قبل عام 2022 والذي شهد هبوط مؤشر “إس آند بي 500” بنحو 18%.
– قبل أكثر من عقدين من الزمان، قال “بافت” في شرح مؤشره: “إذا هبطت النسبة المئوية إلى منطقة 70% أو 80%، فمن المرجح أن يكون شراء الأسهم مفيدًا للغاية، لكن إذا اقتربت النسبة من 200% فإنك تلعب بالنار”.
– تأتي “بيركشاير” الآن في المرتبة العشرين بين أكبر الشركات امتلاكًا للكاش، لكن باستبعاد الشركات المالية (البنوك ومقدمي خدمات التأمين والوساطة) تحل في المرتبة الأولى، وعمومًا تتفوق على “جولدمان ساكس” و”بنك أوف أمريكا” و”ألفابت” و”أمازون” و”آبل”.
– بالعودة إلى النصيحة التي وجهها “بافت” للمستثمرين في 2008، وبالحديث عن الجشع، فإن مؤشر “الخوف والجشع في وول ستريت” يشير إلى أن مستثمري الأسهم يقودهم الآن الجشع خاصة في ما يتعلق بالتسعير، وهذا دليل آخر قد يفسر التحرك الاستباقي الحذر لـ “بافت”.
هل هناك أزمة اقتصادية؟
– على مدار العام الجاري، كان هناك سجال بين المستثمرين بشأن قدرة الاحتياطي الفيدرالي على تجنب الركود، لكن مؤخرًا ظهرت مؤشرات مقلقة مثل عودة منحنى العائد إلى طبيعته، وخفض الفائدة بوتيرة كبيرة، ما اعتبره البعض (أمثال الرئيس السابق دونالد ترامب) خطوة لاستباق الركود المحتمل .
– لكن لنفهم ما يجول في رأس المستثمر الملياردير، يجب أن نعرج أكثر على فلسفته خلال الأزمات،فإلى جانب نصيحته للمستثمرين بشأن الجشع خلال الأزمة المالية، قال “بافت” في عام 2002، إن هناك سببين رئيسيين لبيع الأسهم التي تمتلكها “بيركشاير”.
– السبب الأول هو الحاجة إلى شراء أسهم أخرى، حيث قال إنه “سيبيع على مضض شيئًا رخيصًا للغاية لشراء شيء أرخص”، والسبب الثاني الأكثر شيوعًاهو تغير الأساسيات أو المشهد التنافسي، إذ قالإنه “يبيع حقًا عندما يضطر لإعادة تقييم الخصائص الاقتصادية للشركة”.
– بالنسبة لمخاوف الركود، شرح “بافت” استراتيجيته للاستعداد لهذا السيناريو في مقابلة عام 2023، وركز على 5 محاور هي “وضع الاستثمارات في شركات جديرة بالثقة” و”التمسك بالخطة الطبيعية” و”تجنب وضع كل الأموال في أصول لا تنمو” و”صياغة خطة طويلة الأجل تحسبًا لامتداد الركود”.
– مع ذلك، كان المحور الرئيسي في استراتيجية”بافت”التحوطية هو “جمع الكاش“، قائلًا إنه يجب “الاحتفاظ بالكثير من النقود في متناول اليد” قبل الركود، حتى يتمكن المستثمر من الاستمرار في اتخاذ قرارات ذكية بدلاً من القرارات التيتُفرض عليه.
– ربما كان هذا دافع آخر وراء بيع الملياردير لبعض أفضل استثماراته من أجل جمع هذا القدر الهائل وغير المسبوق من المال (110 مليارات دولار في 6 أشهر)، والذي قد يزيد عند الكشف عن نتائج أعمال الربع الثالث.
هل يخشى ضغوطًا ضريبية؟
– تتجاوز عائدات بيع أسهم “بنك أوف أمريكا” (مع احتساب توزيعات الأرباح) مبلغ 14.6 مليار دولار التي أنفقتها “بيركشاير” لبناء حيازتها في المصرف، مع العلم أن الحصة المتبقية تتجاوز قيمتها 32 مليارًا) فيما يأتي بيع أسهم “بي واي دي” بعد رهان ناجح ارتفعت فيه قيمتها بنحو 20 مثلًا.
– بالنسبة لسهم “آبل”، فعلى الأرجح حقق “بافت” مكاسب هائلة من بيعه، فمنذ بدأ الملياردير إضافته لمحفظته في عام 2016، ارتفع السهم بنسبة 900%، وتطورت حصة “بيركشاير” سريعًا من 39 مليون سهمًا في ذلك العام إلى أكثر من مليار سهم في 2018.
– ما زال سهم “آبل” يشكل أكبر حيازة في محفظة “بيركشاير”، حيث تمتلك الشركة 400 مليون سهم تتجاوز قيمتها 91 مليار دولار، وبشكل صافي، تقدر مكاسب “بافت” عند بيع أسهم صانعة “أيفون” مؤخرًا بنحو 400%.
– مع ذلك، فإن بيع الأسهم بهذه المكاسب، يعني أن على “بافت” سداد الضرائب على الأرباح الرأسمالية، والتي تقدر على عملية البيع الأخيرة لأسهم “آبل” فقط (نحو 390 مليون سهم) بنحو 15 مليار دولار، وعند إضافة مبيعات الأسهم الأخرى ستكون المستحقات الضريبية أكبر بكثير.
– لكن بالنسبة للمستثمر الذي يحاول دائمًا أن يسبق السوق بخطوة، قد يكون من المربح بشكل أكبر بيع الأسهم الآن إذا كانت الضرائب في طريقها للارتفاع، ليستفيد بحيازة النقدية تحسبًا لأي اضطراب، وفي نفس الوقت تجنب دفع ضرائب أكبر مستقبلًا.
– في مايو الماضي، قال حكيم أوماها إنه يتوقع أن ترفع الحكومة الأمريكية الضرائب لمعالجة العجز المالي المتزايد، مضيفًا: “قد لا يرغبون في خفض الإنفاق ويقررون أخذ نسبة أكبر مما نملكه، وسندفعها”.
– عندما سُئل عما إذا كان يشعر بالقلق إزاء المستويات المتزايدة بسرعة لديون الحكومة الأمريكية، قال “بافت” إن ما يقلقه هو العجز المالي أكثر من حجم سوق سندات الخزانة، حيث يتوقع أن يظل الدين الحكومي مقبولا لفترة طويلة.
– ذكر أيضًا: “نحن ندفع ضريبة فيدرالية بنسبة 21% على المكاسب التي نحصل عليها من أسهم’آبل‘وكان هذا المعدل 35% قبل فترة ليست طويلة، وبلغ 52% في الماضي، ومع السياسات المالية الحالية، أعتقد أن رفع الضرائب مرجح للغاية”.
الاحتمال الأقرب
– يرجح معلقون ومحللون أن بيع “بافت” للأسهم بهذه الوتيرة هو سببه القلق من زيادة الضرائب قريبًا، خاصة في ظل عدم اليقين بشأن نتيجة الانتخابات الرئاسية المقبلة، حيث تعهدت المرشحة الديمقراطية “كامالا هاريس” بزيادة ضرائب الشركات وفرض رسوم على مرتفعي الدخل .
– على أي حال، يبدو أن الأسباب تعددت أمام المستثمرين للقلق، سواء بسبب انهيار محتمل للأسواق، أو أزمة اقصادية وشيكة، أو ضرائب مرتفعة مستقبلًا، أو ربما سيناريوهات أكثر سوداوية، لكن تظل الحقيقة التاريخية الثابتة أن “بافت” لم يشعر بالهلع قط في أوقات الاضطراب ولم يبع بناءً على التوقعات.
– لكن من يعلم ربما تكون هذه “قواعد الاشتباك” الجديدة لحكيم أوماها الذي كثيرًا ما أثبتت المواقف مرونته، فهل يكشف الوقتقريبًا عن سر عمليات البيع هذه التي تركت الأسواق في حيرة من أمرها؟.