الاقتصادية

الرأسمالية في مرآة التاريخ: تحليل نقدي من الثورة الصناعية إلى الاقتصاد الرقمي

في عالم الاقتصاد المعقد، يبرز جون كاسيدي، الصحفي البريطاني-الأمريكي في ذا نيويوركر، كواحد من أبرز المفكرين القادرين على قراءة ديناميات الرأسمالية وفهم تطوراتها عبر الزمن.

اشتهر بكتابيه Dot.con، الذي كشف فقاعة الإنترنت في التسعينيات، وHow Markets Fail، الذي قدّم تفسيرًا معمقًا لأسباب الأزمة المالية العالمية عام 2008.

وفي أحدث مؤلفاته Capitalism and Its Critics (الرأسمالية ونقّادها)، يأخذ كاسيدي القارئ في رحلة عبر التاريخ الاقتصادي، منذ القرن الثامن عشر وحتى العصر الحديث، مستعرضًا الرأسمالية من خلال أعين أبرز منتقديها، ليكشف كيف شكلت النظام العالمي وأثرت على حياة البشر بطرق متناقضة، تجمع بين الإعجاب والتحذير.

يبدأ كاسيدي سرد أحداثه بالحقبة الاستعمارية، مستحضراً تجربة موظف شركة الهند الشرقية وليم بولتس، الذي شاهد الاحتكار يتحوّل إلى أداة نهب منظّم.

ثم ينتقل إلى الحاضر، حيث تكشف الأزمة الاقتصادية العالمية عن التفاوت الكبير في الثروة، والاضطرابات المالية، والأوبئة، والحروب، وتغير المناخ، إلى جانب صعود الذكاء الاصطناعي.

يصف البعض هذه المرحلة بأنها «الأزمة المتعددة» أو polycrisis، بينما يراها آخرون مؤشراً على تحديات كبيرة تواجه الرأسمالية نفسها.

يعرّف كاسيدي الرأسمالية كنظام اقتصادي يعتمد على السوق، يمتلك فيه الأفراد وسائل الإنتاج ويستعينون بالعمال والمديرين لتسييرها. رغم بساطتها الظاهرية، فإن النظام قادر على إحداث تغييرات جوهرية وعميقة مع كل مرحلة تطور.

الكتاب يقدم مجموعة متنوعة من النقّاد: من الراديكاليين مثل ماركس وإنجلز، إلى الإصلاحيين كجون ماينارد كينز، ومن الليبراليين فريدريش هايك وميلتون فريدمان، إلى ناشطات مثل آنا ويلر وسيلفيا فيديريتشي اللاتي ناضلن من أجل العدالة الاجتماعية وأجر المرأة في العمل المنزلي.

كما يخصص كاسيدي فصولًا لشخصيات الفكر الاجتماعي مثل روزا لوكسمبورغ وتوماس كارلايل وهنري جورج وجون هوبسون.

يستعرض الكتاب التحولات الكبرى بعد الحربين العالميتين، مثل مؤلفي 1944: الطريق إلى العبودية لهايك، الذي حذر من الاشتراكية، والتحول العظيم لبولاني، الذي اعتبر السوق الحرة مصدرًا للسلطوية وردود الفعل الجماعية.

في النصف الثاني من القرن العشرين، ظهرت تيارات فكرية جديدة، من الماركسيين الجدد إلى منظري «الاعتماد المتبادل» في أمريكا اللاتينية، الذين ركزوا على تأثير اندماج الدول الفقيرة في النظام الرأسمالي العالمي، مع مساهمات مفكرين معاصرين مثل جوزيف ستيغليتز وداني رودريك في نقد العولمة والأسواق المفتوحة.

يتناول كاسيدي أيضًا المقاربات البيئية المبكرة، مثل أفكار جي. سي. كومارابا مستشار غاندي، والاقتصادي نيكولاس جورجيسكو-روغن، الذي دعا إلى الحد الجذري من الإنتاج والاستهلاك. كما يبرز دور الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي في نقد عدم المساواة، مؤكدًا أن الرأسمالية بطبيعتها تعمّق الفوارق الطبقية.

يستخلص كاسيدي ثلاثة دروس رئيسية:

  1. النقد الموجه للرأسمالية لم يتغير جوهريًا عبر التاريخ؛ فهي نظام استغلالي وغير عادل وغير مستقر، لكنه قوي وطاغٍ.

  2. الرأسمالية تتأرجح بين ازدهار وذعر؛ فهي دائمًا إما في أزمة، خارجة منها، أو تتجه نحو أخرى.

  3. قدرة النظام على التكيّف والتحوّل من الثورة الصناعية إلى صعود الشركات الكبرى، وصولًا إلى الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي، تضمن له الاستمرارية.

رغم التنبؤات بانهيار الرأسمالية، يشير كاسيدي إلى أن النظام نجح بفضل صعود الدولة الكبرى ودورها في الرعاية الاجتماعية وتحقيق التوازن. ومع تحوّل السياسة من الملكية إلى الديمقراطية، ومن الإمبراطوريات إلى الدول الوطنية، بقيت الرأسمالية في حركة مستمرة.

لكن الكاتب يحذّر من التحديات المعاصرة: تصاعد النزعات السلطوية، انهيار النظام الليبرالي العالمي، صعود قوى جديدة تمزج بين الشيوعية والرأسمالية، وأزمات المناخ والتكنولوجيا التي تطرح معضلات أخلاقية وسياسية عميقة.

وفي ختام كتابه، يؤكد كاسيدي أن الرأسمالية ستظل في حالة تحول دائم، حتى يثبت التاريخ صحة نقد منتقديها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى