الذرة والأسفلت…حلم “السيارة النووية” الذي ابتلعه الواقع

مع تسارع وتيرة النقاشات العالمية حول جدوى وكفاءة السيارات الكهربائية كبديل حقيقي وفعال لمركبات الوقود الأحفوري التقليدية، يبرز تساؤل يتجاوز حدود الحاضر والمألوف: لماذا لا نستثمر في الطاقة النووية كمصدر وقود نظيف وقوي للسيارات؟
هذا الطرح، الذي قد يبدو اليوم خياليًا، ليس سوى صدى تاريخي لحقبة مضت. ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومع انطلاق “العصر الذري” في خمسينيات القرن الماضي، عمّ تفاؤل عارم حول إمكانات الطاقة النووية، التي ارتقت إلى منزلة الرمز للتقدم والتفوق الصناعي، ووُصفت بأنها رخيصة، نظيفة، و”لا حدود لها”.
غذّى هذا التفاؤل انطلاق شركات السيارات نحو تقديم مفاهيم ونماذج بدت وكأنها قفزت مباشرة من صفحات الخيال العلمي إلى المعارض الدولية، وكانت هذه النماذج بمثابة إعلانات قوية عن قدرة الصناعة على إعادة تشكيل مفهوم النقل بالكامل.
ومن أبرز هذه النماذج كانت فورد نوكليون (1958)، المستلهمة من الغواصات النووية، والتي اعتمدت على مفاعل صغير لتوليد بخار يدير محركًا بخاريًا، ووعدت بمدى قيادة مذهل يصل إلى 8,000 كيلومتر، وكذلك نموذج ستوديبيكر – باكارد أسترال (1957) بتصميمه المدهش وعجلته الجيروسكوبية، وأربيل سيمتريك (1958) الفرنسية التي رُوج لها بفكرة الكبسولات النووية التي تكفي لخمس سنوات، إضافة إلى سيمكا فولغير (1959) الطائرة الشكل المزودة بالرادار وأنظمة القيادة الذاتية الخيالية، وفورد سياتل-آيت XXI (1962) الذي جمع بين الطاقة الذرية والملاحة الإلكترونية.
كانت هذه النماذج رسائل “حلم” أكثر من كونها “منتجات”، لكنها سرعان ما اصطدمت بحائط الواقع الأمني والتقني.
اليوم، وبينما يتجه العالم بثبات نحو المركبات الكهربائية (EVs)، تعود الطاقة النووية لتطرح نفسها كحل نظري للعديد من مشكلات السيارات الكهربائية الحالية، مثل “قلق المدى” والاعتماد المستمر على الكهرباء المولدة من الوقود الأحفوري في كثير من الأماكن.
ويمكن للطاقة النووية أن تدعم مستقبل النقل بشكل غير مباشر عبر استخدام المفاعلات النووية الصغيرة والمتطورة (SMRs) لتغذية شبكات الشحن بالكهرباء النظيفة والمستدامة، أو عبر الاستفادة من الحرارة النووية في إنتاج وقود الهيدروجين النظيف.
لكن تطبيق فكرة المفاعل داخل السيارة يواجه تحديات هائلة جعلتها مستحيلة عمليًا، فأولاً، المواد النووية بطبيعتها مشعة، وتتطلب دروعًا واقية سميكة جدًا لحماية الركاب والمارة من التسرب الإشعاعي، وهذا التدريع يجعل السيارة ضخمة، باهظة التكلفة، وغير عملية على الإطلاق.
ثانيًا، يمثل وجود مواد مشعة في مركبة عادية خطرًا أمنيًا جسيمًا، والأهم هو الخوف من حوادث الاصطدام العنيفة التي قد تؤدي إلى اختراق الدرع الواقي وتسرب إشعاعي كارثي، وهو خطر لا يمكن لأي ضمانات هندسية إزالته بالكامل.
في الخلاصة، ورغم الإغراء النظري لوعد الطاقة النووية النظيفة والمدى غير المحدود، فإن الفوائد المرجوة لا تبرر أبدًا المخاطر الأمنية والصحية واللوجستية الهائلة. لذا، تخلّت صناعة السيارات منذ زمن طويل عن المسار النووي المباشر، ووجهت جهودها نحو بدائل أكثر واقعية وقابلة للتطبيق مثل الكهرباء والهيدروجين.
وفي الختام، بينما ستبقى “السيارة النووية” ذات المفاعل الداخلي حلماً من زمن الخيال العلمي، فإن الطاقة النووية تظل مرشحًا قويًا لدور غير مباشر وحاسم: تزويد شبكات الكهرباء العالمية بالطاقة الخضراء اللازمة لتشغيل وتغذية أسطول النقل المستدام في المستقبل.