توماس بيكيتي.. عندما يصبح الاقتصاد قصة إنسانية

في زمن تطغى فيه الأرقام والإحصاءات على جوهر القضايا الاجتماعية، يأتي صوت توماس بيكيتي ليذكّرنا بأن الاقتصاد ليس مجرد علم، بل قصة إنسانية عن العدالة والفرص.
لم يكن هذا الاقتصادي الفرنسي مجرد أكاديمي عادي، بل تحوّل إلى ظاهرة عالمية بعد إصداره كتاب “رأس المال في القرن الحادي والعشرين”.
لم يكن الكتاب مجرد إضافة للمكتبة الاقتصادية، بل قنبلة فكرية هزّت أسس النقاش العالمي حول الرأسمالية، وفتحت من جديد ملف اللامساواة الاقتصادية الذي كان يُعتبر من الماضي.
وُلد بيكيتي في باريس عام 1971، ونشأ في بيئة يسارية تركت أثرًا في فكره. أظهر نبوغًا مبكرًا، حيث حصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد وعمره لم يتجاوز 22 عامًا.
بعد مسيرة أكاديمية حافلة، أسس “مدرسة باريس للاقتصاد” وترأسها، ليصبح من أبرز الاقتصاديين الشباب في فرنسا. لكن شهرته الحقيقية لم تكن محصورة في الأوساط الأكاديمية، بل تخطتها لتشمل العالم بأسره.
في عام 2014، تحوّل بيكيتي إلى نجم عالمي مع صدور الترجمة الإنجليزية لكتابه الذي أحدث ضجة هائلة. لم يكن النجاح وليد الصدفة، بل نابعًا من أطروحة جريئة مدعومة ببيانات تاريخية غير مسبوقة تمتد لأكثر من قرنين.
يقدم بيكيتي معادلة بسيطة وعميقة في آن واحد: .
- : معدل العائد على رأس المال (الأرباح، الإيجارات، الفوائد).
- : معدل النمو الاقتصادي.
ويجادل بيكيتي بأن معدل العائد على رأس المال () يميل على المدى الطويل إلى أن يكون أعلى من معدل النمو الاقتصادي ().
تؤدي هذه الفجوة إلى أن تنمو ثروة الأغنياء الموروثة بشكل أسرع من الثروة المكتسبة من العمل، مما يوسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء بشكل متزايد.
هذا الواقع، بحسب بيكيتي، يهدد بتقويض مفهوم الديمقراطية القائمة على الجدارة، ويعيد المجتمعات إلى نمط “الرأسمالية الوراثية” التي سادت في القرن التاسع عشر.
لا يكتفي بيكيتي بالتشخيص، بل يطرح حلولًا جذرية ومثيرة للجدل لمواجهة هذه الأزمة. أبرز اقتراحاته هو فرض ضريبة عالمية تصاعدية سنوية على الثروة، تصل إلى 2% على الثروات الضخمة.
ورغم إقراره بأن هذا الحل قد يبدو طوباويًا، إلا أنه يؤكد على ضرورة اعتماد سياسات ضريبية جريئة على المستويين الإقليمي والوطني، مثل فرض ضرائب مرتفعة جدًا على الدخول الفاحشة التي تصل إلى 80%.
الهدف من هذه الضرائب، كما يوضح بيكيتي، ليس فقط جمع الإيرادات للدولة، بل كبح جماح التفاوت وتقويض الدخول التي لا فائدة منها للمجتمع.
لم تمر أطروحات بيكيتي دون نقد. في عام 2014، نشرت صحيفة فاينانشال تايمز تحقيقًا يشكك في بعض البيانات التي استخدمها، مدعيةً وجود تناقضات قد تضعف استنتاجاته. رد بيكيتي على هذه الاتهامات مدافعًا عن منهجيته، ومعترفًا ببعض التحديات في جمع البيانات حول الثروة.
وعلى الرغم من هذا الجدل، لم يتضاءل تأثير كتاب “رأس المال في القرن الحادي والعشرين”. بل على العكس، ساهم الجدل في زيادة شهرته، وأكد على أهمية البحث في هذه القضية.
بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع استنتاجاته، فإن إرث توماس بيكيتي لا يمكن إنكاره. لقد نجح في إعادة قضية اللامساواة إلى قلب النقاش العام والسياسي والأكاديمي.
أفكاره أصبحت مرجعًا رئيسيًا في مجال اقتصاديات اللامساواة، وألهمت دعوات لفرض ضرائب على الثروة في العديد من دول العالم.
واصل بيكيتي تطوير أفكاره في أعمال لاحقة، مثل “رأس المال والأيديولوجيا”، ليؤكد على أن التفاوت ليس قدرًا محتومًا، بل نتيجة خيارات سياسية واقتصادية.
في الختام، يُعد توماس بيكيتي أكثر من مجرد اقتصادي؛ إنه مفكر أجبر العالم على مواجهة حقيقة الفجوة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء، وطرح السؤال الأساسي حول عدالة نظامنا الاقتصادي ومستقبله.