الهيمنة الرقمية: من يرسم حدود السلطة في عالم بلا حدود؟

في زمن تتشابك فيه الشبكات الرقمية وتتحكم الخوارزميات بحياتنا اليومية، أصبح من الواضح أن المعركة الحقيقية لا تدور فقط حول التكنولوجيا نفسها، بل حول من يضع قواعد اللعبة الرقمية التي تحدد مستقبل العالم.
في هذا السياق، تبرز قضية هامة: كيف تُنظم هذه الفضاءات المفتوحة التي تتجاوز حدود الدول، ومن يمتلك السلطة الحقيقية في ظل تصاعد النفوذ الرقمي؟
في كتابها “الإمبراطوريات الرقمية: الصراع العالمي لتنظيم التكنولوجيا”، تقدم الباحثة آنا برادفورد رؤية معمقة لهذا الصراع الجديد، حيث تتنافس ثلاث قوى عالمية على فرض سياساتها الرقمية الخاصة، محولة بذلك العالم الرقمي إلى ميدان تنافس سياسي واقتصادي وثقافي.
ترصد برادفورد في فصولها الأولى خصائص هذه الإمبراطوريات الرقمية:
الولايات المتحدة التي تعتنق مبدأ الابتكار الحر والحد الأدنى من التدخل الحكومي، مع تمسك قوي بحرية التعبير ودور عمالقة التكنولوجيا في قيادة المشهد.
الصين التي تمارس سيطرة صارمة عبر نموذج “السيادة الرقمية”، حيث تُوظف التكنولوجيا لتعزيز الاستقرار السياسي والسيطرة على المعلومات داخل حدودها.
الاتحاد الأوروبي الذي يتبنى نهج الحقوق والحماية القانونية، مركّزًا على خصوصية الأفراد وكرامتهم من خلال تشريعات صارمة تشكل نموذجًا عالميًا يحتذى به.
ويكشف الكتاب كيف أن هذه النماذج تتفاعل بشكل معقد ومتناقض، حيث يتشارك الغرب قلقه من النمو الصيني، في حين تبحث دول أخرى عن نموذج الحوكمة الأنسب لها، مما يؤدي إلى صراعات قانونية واقتصادية متكررة تؤثر على شركات التكنولوجيا والمستخدمين على حد سواء.
تُبرز برادفورد تأثير التشريعات الأوروبية القوية، التي أصبحت معيارًا عالميًا، مقابل استراتيجية الصين الطموحة لتصدير نموذجها الرقمي عبر مشاريع كبرى مثل “طريق الحرير الرقمي”، بينما يشهد النموذج الأمريكي تناقصًا في الهيمنة بسبب التحديات التنظيمية والانتقادات المتزايدة.
في ظل هذا الصراع، يواجه العالم سباقًا محمومًا بين المشرعين لمواكبة الابتكارات السريعة، خاصة مع ظهور تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي التي زادت من تعقيد المشهد الرقمي، مما يؤكد أهمية فهم هذا الصراع وتأثيره المباشر على الاقتصاد والسياسة والحقوق الفردية.
إن كتاب آنا برادفورد يشكل خارطة طريق ضرورية لكل من يرغب في فهم الأبعاد الحقيقية للهيمنة الرقمية التي تحدد مصيرنا في القرن الحادي والعشرين.