من الشعار إلى الواقع: المهارات ليست مجرد عملة، بل بنية تحتية لمستقبل الاقتصاد

في عالم تتسارع فيه التحولات التكنولوجية والاجتماعية والاقتصادية، لم يعد كافيًا أن ننظر إلى المهارات باعتبارها مجرد “عملة جديدة”، كما اعتدنا أن نردد في المنتديات والمؤتمرات.
فهذه المقولة، على الرغم من جاذبيتها، تخفي وراءها اختزالًا مبالغًا فيه لأصلٍ جوهريّ أكثر عمقًا: المهارات ليست شيئًا يُتداول، بل شيئًا يُبنى عليه.
فكما أن الاقتصادات لا تنهض من فراغ، فإن الابتكار، والقدرة على التكيف، والنمو الشامل، كلها لا تتحقق إلا على قاعدة صلبة من الكفاءات المتطورة باستمرار. إنها البنية التحتية البشرية التي تمكّن المجتمعات من الصمود والازدهار، تمامًا كما تفعل شبكات الطرق والطاقة والاتصالات.
ومع اقتراب انعقاد المنتدى الاقتصادي العالمي هذا العام تحت شعار “ريادة الأعمال لعصر جديد”، يزداد إلحاح الحاجة إلى إعادة صياغة علاقتنا بالمهارات، ليس فقط بوصفها أداة إنتاجية، بل باعتبارها نظامًا متكاملًا يجب الاستثمار فيه وتحديثه باستمرار.
و إذا كانت العملات تتغير وفق قوى السوق، فإن المهارات تتطلب استثمارًا طويل الأمد. هي ليست موردًا يُستنزف أو يُستبدل، بل هي أصل يتراكم ويعزز فرص الابتكار والتنمية والتماسك المجتمعي.
ولهذا، فإن وضع المهارات ضمن نفس إطار البنى التحتية الأساسية يفرض على صناع القرار توجيه استثمارات ذكية ومنهجية، تضمن ديمومة النظام التعليمي، ومرونة أسواق العمل، وقدرة الأفراد على التأقلم والتعلم مدى الحياة.
في ظل تقرير “مستقبل الوظائف 2025″، والذي يتوقع أن 40% من المهارات الأساسية ستصبح قديمة بحلول 2030، تُدق نواقيس الخطر.
ومع اعتراف 63% من أصحاب العمل بأن فجوات المهارات تعرقل أعمالهم، يصبح الذكاء الاصطناعي أداة لا غنى عنها لتشخيص الاحتياجات المستقبلية وتحويل البيانات إلى بوصلة عمل.
فهذه التكنولوجيا قادرة على تحليل ملايين المسارات المهنية، واستخلاص أنماط دقيقة ترشد السياسات التعليمية والتدريبية، وتساعد الأفراد في اتخاذ قرارات مهنية مرنة ومدروسة.
لقد شكلت منصات مثل O*NET الأمريكية وESCO الأوروبية مرجعًا في تنظيم المهارات لعقود، لكنها اليوم تعاني من الجمود في عصر يتطلب تحديثًا لحظيًا تقريبًا.
تجربة الربط الرقمي بين النظامين عام 2022 تؤشر إلى اتجاه عالمي جديد: أنظمة مهارات ديناميكية قائمة على الذكاء الاصطناعي، قادرة على تقديم مواءمات فورية بين احتياجات السوق وقدرات الأفراد، وتصميم برامج تدريب متكيفة مع كل مسار مهني.
في مواجهة أسواق عمل أصبحت عابرة للحدود، يطرح المنتدى الاقتصادي العالمي “أدوات اعتماد تصنيف المهارات العالمي 2025” كإطار مشترك يعزز من التنقل الوظيفي ويقلص الفجوات بين العرض والطلب.
ومن خلال مفهوم “المهارات المجاورة”، يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يفتح مسارات انتقال وظيفي ذكي، يسهّل على العاملين تغيير وظائفهم دون الحاجة إلى إعادة تأهيل شاملة، ما يرفع من مرونة السوق ويحسّن توزيع القدرات.
لقد تجاوزنا مرحلة الاكتفاء بوصف المهارات كـ”عملة”. نحن أمام تحول مفاهيمي ضروري: المهارات هي البنية التحتية البشرية التي لا يمكن لأي اقتصاد حديث الاستغناء عنها.
واستثمارنا في “ذكاء المهارات” ليس ترفًا تكنولوجيًا، بل هو حجر الأساس في معادلة النمو المستدام والمواكبة المستمرة لعالم يتغير بلا هوادة. فكما تُبنى الأمم على الجسور والموانئ، ستُبنى اقتصادات الغد على شبكات المهارات الذكية.
إن مستقبلنا، ببساطة، يتحدد بقدرتنا على فهم المهارات ليس فقط كقيمة اقتصادية، بل كنظام عصبي يشغّل المجتمعات الحديثة.