رأس المال الفكري: الثروة الحقيقية للأمم في القرن الواحد والعشرين
يُعد الاقتصاد المعرفي نموذجًا ثوريًا يعتمد على تحويل المعرفة إلى رأس مال حقيقي يدفع عجلة النمو والتقدم الاقتصادي.
هذا النظام يستند إلى استثمار الاكتشافات العلمية والأبحاث التطبيقية لتحقيق التنمية، حيث تُحوَّل الأفكار والاكتشافات إلى منتجات وخدمات تحمل قيمة اقتصادية ملموسة.
في قلب الاقتصاد المعرفي تكمن فكرة أن الأصول غير المادية، مثل الخبرات والمهارات الفكرية وحقوق الملكية الفكرية، تشكل الجزء الأكبر من القيمة الإجمالية للدول المتقدمة.
ففي الوقت الذي تركز فيه الاقتصادات الناشئة بشكل رئيسي على قطاعات الزراعة والصناعة، تتميز الدول المتقدمة بتقدمها في القطاعات الخدمية والأنشطة الاقتصادية المبنية على المعرفة، مثل البحث العلمي والدعم التقني والاستشارات المتخصصة.
يتجسد الاقتصاد المعرفي أيضًا في سوق لتصنيع وتبادل الاكتشافات العلمية والهندسية، حيث يتم تحويل الأفكار المبدعة إلى منتجات ملموسة كالبراءات وأشكال حماية الملكية الفكرية.
ويُعتبر الخبراء العلميّون ومراكز البحث والتطوير من العناصر الحيوية التي تُسهم في إنتاج ونقل هذه المعرفة إلى مختلف قطاعات الاقتصاد.
مع تسارع وتيرة العولمة، انتشرت أفضل الممارسات من مختلف أنحاء العالم، مما جعل الاقتصاد العالمي يعتمد بشكل متزايد على المعرفة كأساس للنمو والابتكار.
إذ تُعد الخبرة البشرية والأسرار التجارية موارد ذات قيمة اقتصادية عالية، على الرغم من أن المبادئ المحاسبية التقليدية لا تسمح للشركات بإدراج هذه الأصول غير الملموسة في ميزانياتها العمومية.
كما أن التوجه الحديث نحو تسويق البحوث الأكاديمية والعلوم الأساسية يعود جزئيًا إلى دوافع استراتيجية، منها تحقيق التفوق العسكري والاقتصادي. وهذا التحول يؤكد على أن المعرفة ليست مقتصرة على جانب واحد بل تمتد لتشمل جميع أبعاد النشاط الاقتصادي.
رأس المال البشري: العمود الفقري للاقتصاد المعرفي
يستعرض اقتصاد المعرفة كيفية توظيف التعليم والمهارات العقلية كأصول إنتاجية قابلة للتسويق، مما يحقق أرباحًا للمؤسسات والأفراد على حد سواء.
ففي هذا السياق، لا يعتمد الاقتصاد المعرفي على الموارد الطبيعية أو المدخلات المادية بقدر ما يعتمد على القدرات الفكرية والإبداعية.
يساهم انتشار المنتجات والخدمات المبنية على الخبرة الفكرية في تعزيز التطور التكنولوجي والعلمي، مما يخلق مناخًا خصبًا للابتكار الاقتصادي.
ويشير البنك الدولي إلى أربعة دعائم أساسية تميز الاقتصادات القائمة على المعرفة:
الأُطر المؤسسية: التي توفر بيئة ملائمة لريادة الأعمال وتشجع على استثمار المعرفة.
القوى العاملة المدربة: من خلال نظام تعليمي متطور يوفر مهارات عالية الجودة.
البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات: التي تسهل الوصول إلى أحدث التقنيات.
بيئة ابتكارية نشطة: تشمل التعاون بين الأوساط الأكاديمية والقطاع الخاص والمجتمع المدني.
تظهر أهمية الاقتصاد المعرفي في قطاعات متعددة، بدءًا من المؤسسات الأكاديمية ومراكز البحث والتطوير، مرورًا بالمبرمجين الذين يصممون تطبيقات ومحركات بحث ذكية، وحتى العاملين في القطاع الصحي الذين يستخدمون البيانات الرقمية لتحسين طرق العلاج.
إذ يقوم هؤلاء “وسطاء المعرفة” بنقل نتائج البحوث والتقنيات الحديثة إلى مجالات تقليدية مثل الزراعة، حيث يستخدم المزارعون التطبيقات الرقمية لإدارة محاصيلهم بكفاءة أكبر.
كما تتجسد الابتكارات في الإجراءات الطبية المتقدمة مثل الجراحات بمساعدة الروبوت، وفي أنظمة التعليم التي تعتمد على الدورات التدريبية الرقمية والمساعدات التعليمية عبر الإنترنت.
و على الرغم من صعوبة تحديد قيمة دقيقة للاقتصاد المعرفي العالمي بسبب غموض تعريفه مقارنة بالقطاعات الصناعية التقليدية، إلا أن بعض مؤشرات السوق توفر تقديرات تقريبية.
ففي عام 2023، سجل سوق الملكية الفكرية في الولايات المتحدة قيمة وصلت إلى 62.18 مليار دولار، بينما بلغ سوق مؤسسات التعليم العالي 818.6 مليار دولار، مما يعكس التأثير الكبير لهذا النوع من الاقتصاد.
ومن جهة أخرى، تُعد المهارات المكتسبة من التعليم العالي والتدريب المهني من العوامل الأساسية لنجاح الأفراد في هذا الاقتصاد.
ومع ذلك، فإن مهارات التواصل والعمل الجماعي تبرز كعنصر حيوي، إذ نادرًا ما يستطيع الفرد تحقيق ابتكار رائد بمفرده، مما يجعل التعاون وتكامل الخبرات أمرًا لا غنى عنه.
يتم تقييم أداء الاقتصاد المعرفي عبر مؤشرات مثل مؤشر المعرفة العالمي الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والذي حل محل مؤشر البنك الدولي منذ عام 2012.
و يعتمد هذا المؤشر على عوامل مثل مستوى التعليم والتدريب الفني والابتكار وتكنولوجيا الاتصالات.
وقد احتلت سويسرا الصدارة بنسبة 69.1% في عام 2023، تلتها السويد بنسبة 68.0% والولايات المتحدة بنسبة 66.9%.
يمثل اقتصاد المعرفة مفهومًا حديثًا يقوم على تسويق الجهود الفكرية وتحويل الاكتشافات العلمية إلى منتجات وخدمات تساهم في تنمية الاقتصاد الوطني والعالمي.
رغم أن هذا النوع من الاقتصاد يُعتبر ركيزة أساسية في الدول المتقدمة مثل سويسرا والسويد والولايات المتحدة، إلا أنه يمتد ليشمل كافة دول العالم. ومع ذلك، تظل قضية عدم الاعتراف المحاسبي الكامل بهذه الأصول تحديًا في تحديد قيمتها الاقتصادية بدقة.
بهذا يصبح من الواضح أن المستقبل الاقتصادي لا يُبنى فقط على الموارد المادية، بل على القدرة على الابتكار والاستفادة من رأس المال الفكري لتحويل الأفكار إلى قيمة تنموية مستدامة.