اقتصاد المغربالأخبار

ما بعد الأضحية: كيف تحول المغرب إلى ساحة صراع بين اللوبيات وغياب القانون؟

في مفارقة تعكس عمق الأزمة، وقبل أن يتبدد دخان قرار إلغاء نحر الأضحية في العيد القادم، كان مشهد ما قبل القرار يكشف عن تربص جشع لتجار الماشية والسماسرة، الذين كانوا يتحينون الفرصة لفرض منطقهم السلعي المتوحش على جيوب ملايين المغاربة، متجاوزين بذلك حدود الأسعار التي أثقلت كاهل الأسر في عيد الأضحى المنصرم.

لكن الرياح سرعان ما تغيرت، فبعد الإعلان الرسمي، انقسم هؤلاء التجار إلى فريقين: نصفهم انخرط في موجة من التباكي والتظلم المصطنع، بينما أضمر النصف الآخر نوايا انتقامية واضحة تجاه المواطنين في المناسبة الدينية القادمة.

هذه الذهنية الانتقامية، التي تنبعث منها رائحة الاستغلال المقيت، ليست مجرد رد فعل غاضب، بل هي تجسيد لعقلية أعمق تهدد النسيج الاجتماعي المغربي الذي يتشدق بالوحدة والتضامن. إنها تكشف عن حقيقة مُرة نتجاهلها عن عمد: لقد بتنا مجتمعًا يرزح تحت وطأة لوبيات وجماعات مصالح باتت تشبه في بنيتها وطرق عملها شبكات المافيا المنظمة.

كل جماعة تسعى بشراسة لترسيخ مصالحها الذاتية، غير آبهة بالتأثير المدمر لذلك على باقي مكونات المجتمع. ما نشهده ليس مجرد منافسة اقتصادية شريفة، بل هو أقرب إلى حرب أهلية اقتصادية ضروس، تُشن بأسلحة غير تقليدية، قوامها الاحتكار والتلاعب بالأسعار واستغلال الحاجات.

Lobbying : ces hommes et femmes qui pèsent sur les décisions publiques - La Vie éco

وإلى جانب هذه الكيانات الكبرى ذات النفوذ، برزت طبقة طفيلية أخرى، باتت تُعرف بـ “الشناقة”، التي امتدت مخالبها إلى أدق تفاصيل حياتنا اليومية.

هؤلاء هم أشباح السوق، لا يدفعون ضرائب، ومع ذلك ينعمون بحياة مترفة، كـ “مصاصي دماء” يقتاتون على عرق المجتمع دون أن تحرك الدولة ساكنًا.

بل والأدهى من ذلك، أن هناك من داخل مؤسسات الدولة من يغض الطرف عن وجودهم المشبوه ويتجاهل ممارساتهم غير القانونية.

لكن الخطر الأكبر يكمن في أن عدوى سياسة اللوبيات لم تعد حكرًا على الكبار وأصحاب النفوذ، بل بدأت تستشري في القطاعات الصغرى والهامشية، لتكشف عن هشاشة بنية الدولة وتراجع سلطتها.

إذا نظرنا إلى الدولة من بعيد، قد يتبادر إلى أذهاننا صورة القوة والتماسك، لكن عندما نقترب أكثر، نكتشف أن المجتمع المغربي أصبح مهددًا من الداخل بسبب تفشي الأنانية والصراع المحموم بين الأفراد والفئات.

كل طرف يسعى جاهداً لتحقيق مصلحته الخاصة على حساب الصالح العام وبقية أفراد المجتمع، في ظل غياب حقيقي لسلطة الدولة القادرة على فرض القانون وحماية المواطنين.

لقد ولى زمن الاصطفافات الفكرية والإيديولوجية، وحتى التكتلات القبلية والجغرافية لم تعد ذات تأثير حقيقي في تحديد التحالفات والولاءات. اليوم، أصبح المال هو المعيار الحاسم في تحديد الاصطفافات وتشكيل التحالفات، بغض النظر عن القيم والمبادئ.

هذا الواقع المرير خلق طبقة جديدة من الأثرياء الذين باتوا يتحكمون في مفاصل الاقتصاد والمجتمع، لكنهم في الغالب يفتقرون إلى التعليم والتكوين اللازمين لتحمل مسؤولياتهم. هؤلاء “الأغنياء الجدد” الذين كانوا يكافحون من أجل لقمة العيش قبل سنوات قليلة، يمثلون الآن قوة مؤثرة في المجتمع، لكن تأثيرهم غالبًا ما يكون سلبياً.

Facebook, Uber et Twitter intensifient leurs actions de lobbying - Le Monde Informatique

والأخطر من ذلك هو التلاشي التدريجي للطبقة الوسطى، التي كانت تشكل عماد الاقتصاد والتنمية في المجتمع، مقابل صعود طبقة طفيلية من الأغنياء الجدد الذين يعيشون على امتصاص ثروات الآخرين. هذه التحولات العميقة لا تهدد الاقتصاد فحسب، بل تقوض القيم والمبادئ التي قام عليها المجتمع المغربي.

في نهاية المطاف، بات المال يتحكم في كل شيء، وعندما يقع المال في أيدي الجهلة والجشعين، يصبح المجتمع وكأنه “سوبر ماركت” ضخم، تُعرض فيه كل القيم والمبادئ للبيع والشراء.

اليوم، نعيش في مشهد سريالي مليء باللوبيات المتناحرة: لوبي العقار الذي يضارب على أراضي الفقراء، لوبي “الشناقة” الذي يرفع الأسعار بشكل جنوني، لوبي الماشية الذي يستغل المناسبات الدينية، لوبي المخدرات الذي ينخر المجتمع، لوبي الصيد البحري الذي يستنزف الثروات، وحتى لوبي الانتخابات الذي يشتري الأصوات، وغيرها من اللوبيات التي تلتقي جميعها تحت مظلة الفساد المستشري.

وكما أشار المفكر المغربي حسن أوريد بصدق، فإن المافيا قد تسللت بالفعل إلى مفاصل الدولة.

لذلك، لم نعد بحاجة إلى حلول معقدة أو نظريات اقتصادية معقدة. ما يجب أن تفعله الدولة ببساطة هو أن تنفض عن نفسها غبار التراخي والفساد، وتستعيد سلطتها وهيبتها بكل حزم وقوة، لأن هذا هو السبيل الوحيد لإنقاذ ما تبقى من هيبة القانون وأمن المجتمع المغربي من براثن هذه اللوبيات المتوحشة.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى