عبد اللطيف الجواهري..الصخرة النقدية التي تحمي الاقتصاد المغربي منذ عقدين

في كل مرة يطل فيها اسم عبد اللطيف الجواهري على الساحة العامة، تطفو من جديد شائعات لا تنتهي حول قرب رحيله عن ولاية بنك المغرب.
لكن، وكما هي العادة، ما تلبث هذه الزوابع أن تهدأ، ليؤكد الواقع أن الرجل لا يزال راسخًا في موقعه، محصنًا بثقة المؤسسات العليا، ومزودًا بسمعة لا تشوبها شائبة كأحد أكثر الأصوات الاقتصادية مصداقية وكفاءة في المغرب.
لم يكن الجواهري يومًا مجرد موظف سامٍ يدير مؤسسة مركزية، بل هو أشبه بـ”مرآة نقدية” تعكس الواقع الاقتصادي كما هو، بكل تفاصيله، دون تزييف أو تلطيف.
و على مدى عقدين من الزمن، قاد السياسة النقدية للمملكة بصلابة ووضوح، مقدّمًا تحليلات عميقة في وقتٍ ندرت فيه الصراحة والمصارحة.
رغم قصر قامته، يتمتع الجواهري بشموخ الكلمة، وقد تجاوز الثمانين من عمره دون أن يفقد شيئًا من حدة بصيرته ودقة تشخيصه.
يعتبر نفسه طبيبًا للاقتصاد، يشخص العلل بجرأة، تاركًا لغيره مهمة وصف العلاج.
جرأته في النقد وشفافيته في الطرح لم تخلُ من احتكاكات مع صناع القرار، لكن مكانته ظلت محفوظة، وثقله في المشهد المالي لم يتزعزع.
ولد عبد اللطيف الجواهري في عام 1939، وانضم إلى بنك المغرب في شبابه، قبل أن يحظى بثقة الملك الراحل الحسن الثاني، الذي عينه وزيرًا منتدبًا مكلفًا بإصلاح المؤسسات العمومية في عام 1978، ثم وزيرًا للمالية بين عامي 1981 و1986.
فبعد خروجه من الحكومة، تولى إدارة البنك المغربي للتجارة الخارجية وترأس المجموعة المهنية لبنوك المغرب.
في بداية الألفية، عاد إلى الواجهة من خلال إشرافه على الصندوق المهني المغربي للتقاعد، قبل أن يبدأ فصلًا جديدًا في عام 2003 بتعيينه واليًا لبنك المغرب، المنصب الذي جعله الحاكم الأول للسياسة النقدية و”حارس المعبد المالي” في المملكة.
تعامل الجواهري بحنكة مع أزمات مالية عالمية، من الأزمة المالية العالمية في عام 2008 إلى صدمة جائحة كورونا، ثم التضخم الذي اجتاح العالم. لم ينجرّ إلى ردود فعل انفعالية، بل حافظ على توازن المؤسسة التي يشرف عليها، مستندًا إلى خبرة طويلة ومناعة تدبيرية نادرة.
تتجلى صراحته في تقاريره السنوية أمام الملك محمد السادس، حيث يعرض الحقائق كما هي، دون تجميل أو شعارات، مما أكسبه احترامًا واسعًا داخل المؤسسات وخارجها، وجعل من آرائه مرجعًا في السياسات المالية.
لا يمكن القول إن الجواهري معصوم من الخطأ، لكنه بالتأكيد ليس من أولئك الذين يصمتون عندما يتطلب الموقف كلمة حق. في زمن اختلطت فيه الحكمة بالصمت والمسؤولية بالمجاملة، اختار أن يكون صوته مختلفًا.
عبد اللطيف الجواهري ليس مجرد خبير مالي، بل هو ضمير نقدي حي، حافظ على مصداقيته في وجه تقلبات السياسة والاقتصاد، وشكل حالة استثنائية في زمن ندرت فيه الصراحة وارتفعت فيه شعارات “العام زين”. إنه صخرة الاقتصاد المغربي التي لا تهزها العواصف.