روبرت سولو: المعماري الذي أعاد رسم خريطة النمو الاقتصادي

حين رحل روبرت سولو في 21 دجنبر 2023، ودّع العالم واحدًا من أعظم مفكري الاقتصاد الحديث، الذي أسس لفهم جديد حول كيفية ازدهار الأمم ونجاحها الاقتصادي.
لم يكن سولو، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1987، مجرد أكاديمي بارع، بل كان مفكرًا ثوريًا قلب المعتقدات الاقتصادية التقليدية رأسًا على عقب، واضعًا تساؤلًا أساسيًا أمام الجميع: لماذا تنمو بعض الدول بسرعة بينما تبقى أخرى متعثرة؟
قبل خمسينيات القرن العشرين، كان الرأي السائد أن النمو الاقتصادي المستدام يعتمد على عاملين أساسيين: زيادة معدلات الادخار وتراكم رأس المال المادي كالآلات والمصانع. استراتيجيات هامة مثل نموذج ماهالانوبيس في الهند تبنت هذا المنطق.
لكن سولو جاء ليقدّم رؤية مختلفة تمامًا في ورقته البحثية الشهيرة “مساهمة في نظرية النمو الاقتصادي”.
جوهر أفكاره كان بسيطًا لكنه ثوري: الاعتماد على تراكم رأس المال وحده لن يؤدي إلى نمو مستدام بسبب قانون تناقص الغلة، الذي يعني أن كل وحدة إضافية من رأس المال تساهم بإنتاجية أقل من الوحدة السابقة، وبالتالي فإن الاستثمار الرأسمالي وحده لا يكفي لضمان ازدهار طويل الأمد.
من أبرز ما توصّل إليه سولو:
الادخار ليس العامل الحاسم للنمو طويل الأجل: سواء ادخرت دولة 5% أو 50% من دخلها القومي، فإن معدل النمو على المدى الطويل لن يتأثر بذلك بشكل كبير.
الاستثمار الرأسمالي تأثيره مؤقت: زيادة رأس المال تمنح دفعة نمو مؤقتة فقط قبل أن يعود الاقتصاد إلى مساره الطبيعي.
إذ لم يكن رأس المال كافيًا، وجّه سولو الأنظار نحو التقدم التكنولوجي والتحسينات في الإنتاجية كمفتاح للنمو المستدام. من خلال نموذج مسار النمو المستقر، أظهر أن الاقتصاد يتوازن عندما ينمو الناتج ورأس المال والعمالة بمعدلات متناسقة.
كما كشف تحليله أن النمو في العمالة ورأس المال يفسر جزءًا ضئيلًا من النمو الاقتصادي، بينما يبقى الجزء الأكبر مجهولًا، وهو ما أطلق عليه معامل سولو المتبقي، الذي يمثل أثر الابتكار والتقنية والمعرفة.
وهكذا أعاد الاقتصاد إلى محور الإبداع والابتكار بدلاً من التركيز على تراكم رؤوس الأموال فقط.
من إبداعات سولو كذلك نظرية نمو اللحاق بالركب، التي تنص على أن الدول الفقيرة التي تفتقر إلى رأس المال يمكنها النمو بمعدلات أسرع من الدول الغنية، حيث تكون عوائد كل وحدة من رأس المال الجديدة أكبر.
لكن الواقع يثبت أن هذا التقارب ليس مضمونًا دائمًا، إذ تقع بعض الدول النامية في فخ الدخل المتوسط وتواجه صعوبة في مواصلة النمو.
سولو لم يكن اقتصاديًا جافًا فقط، بل كان صاحب قلم لاذع وروح فكاهية، وهو ما تجلّى في مفارقة سولو الشهيرة: “يمكنك رؤية عصر الحاسوب في كل مكان، إلا في إحصاءات الإنتاجية”.
هذه العبارة البسيطة سلطت الضوء على صعوبة قياس التأثير الحقيقي للتقدم التقني على الاقتصاد، فمثلًا الموسوعات الرقمية المجانية أو الابتكارات الحديثة تزيد رفاهية البشر لكنها لا تنعكس مباشرة على الناتج المحلي الإجمالي.
سيظل روبرت سولو علامة بارزة في تاريخ الفكر الاقتصادي. علمنا أن الثروة الحقيقية للأمم لا تكمن فقط في مصانعها أو رؤوس أموالها، بل في عقول المبدعين وقدرتهم على الابتكار المستمر، وهو العامل الأهم لتحقيق ازدهار مستدام للمجتمعات.