بصمة هاملتون: كيف تحرر الاقتصاد الأمريكي من قيود التبعية؟

في أعقاب حرب الاستقلال الأمريكية، برزت تحديات جديدة أمام الولايات المتحدة الفتية. على الرغم من انتزاع حريتها السياسية من بريطانيا العظمى، ظلت الأمة أسيرة لتبعيتها الاقتصادية. كان النظام المصرفي والمصانع المتقدمة لا يزالان تحت قبضة الإمبراطورية البريطانية.
في خضم هذا الواقع الهش، ظهر رجل لم يكن من الآباء المؤسسين التقليديين، لكنه كان العقل المدبر الذي وضع حجر الأساس للاقتصاد الأمريكي الحديث: ألكسندر هاملتون.
ولد هاملتون عام 1755 في جزيرة نيفيس بالكاريبي في ظروف صعبة للغاية. نشأ يتيمًا فقيرًا، لكنه امتلك ذكاءً وطموحًا لا حدود له.
في سن الحادية عشرة، بدأ العمل ككاتب في متجر تجاري، حيث لفتت قدراته الاستثنائية انتباه المحيطين به.
بفضل دعمهم المادي، تمكن من السفر إلى نيويورك لإكمال تعليمه في “كينجز كوليدج” (جامعة كولومبيا حاليًا).
هناك، صقل هاملتون مواهبه الفكرية، وانخرط في العمل الثوري، وكتب مقالات سياسية مؤثرة أظهرت نضجًا فكريًا يفوق عمره، لدرجة أن البعض اعتقد أنها من تأليف قادة بارزين مثل جون آدامز.
3 دعائم أساسية ارتكزت عليها خطة هاملتون الاقتصادية |
|
1- تأسيس الائتمان العام: تحويل الدَّيْن إلى قوة
|
في الماضي: – ورثت الولايات المتحدة ديونًا هائلة من حرب الاستقلال، وكان الرأي السائد هو التملص من هذه الديون، لكن هاملتون رأى بعين الخبير الاستراتيجي أن “الدَّيْن العام، إذا لم يكن مفرطًا، سيكون نعمة وطنية”. – كانت فلسفته ثورية: فمن خلال التزام الدولة الوليدة بسداد ديونها بالكامل، ستكتسب “مصداقية ائتمانية” لا تُقدر بثمن، ستسمح لها بالاقتراض مستقبلًا لتمويل مشروعاتها وتجاوز أزماتها. – نجح في إقناع الكونجرس بخطته، ليؤسس سمعة الولايات المتحدة كدولة تحترم التزاماتها المالية، وهي السمعة التي لا تزال حجر الزاوية في قوة الدولار اليوم. في الحاضر: – لا تزال الولايات المتحدة، شأنها شأن أي دولة حديثة، تعتمد على الدين العام لتمويل نفقاتها. – ورغم أن حجم الدين قد وصل إلى مستويات غير مسبوقة تفوق ما كان عليه خلال الحرب العالمية الثانية، فإن العالم (من دول ومؤسسات وأفراد) لا يزال يُقبل بشغف على شراء السندات وأذون الخزانة الأمريكية. – غني عن القول إن هذا الإقبال ليس إلا شهادة على نجاح رؤية هاملتون طويلة الأمد؛ فالثقة التي بناها قبل أكثر من قرنين هي التي تضمن اليوم تدفق الأموال إلى الاقتصاد الأمريكي. |
2- إنشاء نظام مصرفي قوي: قلب الاقتصاد النابض
|
في الماضي: – أدرك هاملتون أنه لا يمكن لأي اقتصاد أن ينمو بدون نظام مالي يضخ فيه الأموال بكفاءة، ومن هنا، جاءت فكرته لإنشاء “البنك الأول للولايات المتحدة”. – لم يكن هذا البنك مجرد مؤسسة مالية، بل كان بمثابة القلب النابض الذي يربط بين المدخرين والمستثمرين، ويمنح القروض لرواد الأعمال، ويمول المشروعات، وينظم المعروض النقدي. – أسس هاملتون لشبكة من الوسطاء الماليين الذين شكّلوا الركيزة الأساسية للاقتصاد الأمريكي. في الحاضر: – تغيّر شكل النظام المصرفي الأمريكي بشكل جذري. فبعد أن كان هناك أكثر من 15,000 بنك في عام 1990، انخفض العدد اليوم إلى أقل من 5,000. – لكن صاحبَ هذا الانخفاضَ تركزٌ هائلٌ للثروة والقوة في عدد قليل من المؤسسات المالية العملاقة. – ورغم هذا التغيّر في الهيكل، فإن المبدأ الذي أرساه هاملتون لا يزال قائمًا: وجود قطاع مصرفي قوي وفعّال هو شرط أساسي لازدهار أي اقتصاد. |
3- تشجيع التنوّع الاقتصادي والبنية التحتية: من المزرعة إلى المصنع
|
في الماضي: – كانت أمريكا في عام 1790 اقتصادًا زراعيًا بالكامل. لكن هاملتون أدرك بحصافته أن الاعتماد على الزراعة وحدها هو وصفة للضعف والتبعية. – لذلك، دعا في “تقريره حول الصناعات” إلى دعم القطاع الصناعي الناشئ من خلال فرض رسوم جمركية لحماية المنتجات المحلية وتقديم إعانات للمصانع الجديدة. – لم تقتصر رؤيته على المصانع، بل امتدت لتشمل “البنية التحتية” التي تربط أجزاء الاقتصاد ببعضها؛ فقد شدد على ضرورة بناء الطرق والجسور والقنوات المائية لتكون بمثابة الشرايين التي تنقل البضائع والأفكار عبر الأمة الشاسعة. في الحاضر: – بعد مرور أكثر من 230 عامًا، لا يزال النقاش حول تحديث وتوسيع البنية التحتية يتصدر المشهد السياسي الأمريكي. – والمقترحات التي يناقشها الكونجرس اليوم، والتي تشمل الطرق والجسور والإنترنت فائق السرعة والطاقة النظيفة، ليست سوى امتداد حديث لرؤية هاملتون الأصلية. – فكما أدرك هاملتون، تدرك أمريكا اليوم أن البنية التحتية المتطورة هي العمود الفقري للتنافسية والنمو الاقتصادي. |
عندما تولى هاملتون منصب وزير الخزانة الأول عام 1789، لم يكتفِ بإدارة الشؤون المالية. لقد حمل مشروعًا متكاملًا لتحويل أمريكا من دولة زراعية متناثرة إلى إمبراطورية صناعية واقتصادية. ارتكزت رؤيته على ثلاث ركائز أساسية:
إدارة الدين العام: دعا هاملتون إلى دمج ديون الولايات في دين فيدرالي واحد، بهدف بناء ثقة محلية ودولية في الحكومة الجديدة.
إنشاء نظام مصرفي حيوي: آمن هاملتون بضرورة وجود بنك وطني مركزي لتنظيم السيولة النقدية وتوفير رأس المال اللازم للمشاريع الاقتصادية.
تشجيع التنوع الصناعي: أكد على أهمية دعم الصناعات الناشئة وقطاع التصنيع، لكسر التبعية الاقتصادية لبريطانيا.
لقد أثبتت أفكار هاملتون أن بناء الأمة لا يتوقف عند الحدود السياسية، بل يتطلب استقلالية اقتصادية قوية.
ورغم وفاته المأساوية في مبارزة عام 1804، كان هاملتون قد وضع الركائز الأساسية التي مهدت الطريق أمام أمريكا لتصبح القوة الاقتصادية المهيمنة في العالم.