الصين وسباق البيانات..بناء إمبراطورية رقمية بين الهيمنة الاقتصادية والتحديات الحقوقية

في عصر تُهيمن فيه المعلومات على مسار القوى الاقتصادية والسياسية، لم تعد الصين تكتفي بلعب دور المصنع العالمي أو أكبر سوق للمستهلكين الرقميين، بل تسير بخطى حثيثة نحو إقامة منظومة بيانات وطنية متكاملة تُعدُّ ركيزة أساسية لقوتها المستقبلية.
تحت قيادة الرئيس شي جين بينغ، صارت البيانات تُعتبر في الصين «عنصر إنتاج» رئيسيًا لا يقل أهمية عن العمل أو رأس المال أو الأرض. حيث وصفها شي بأنها “المورد الاستراتيجي ذي التأثير الثوري”، مؤكداً أن السيطرة على البيانات تعني حسم المنافسة الدولية لصالح بكين.
في خطوة تهدف إلى ترسيخ الهيمنة الرقمية، تحوّل الصين البيانات إلى أصول مالية ملموسة، عبر ما يعرف بـ”تسييل البيانات”.
هذا يشمل تقييم أصول المعلومات لدى الشركات الحكومية وإدراجها في الميزانيات، فضلاً عن تطوير بورصات بيانات تتيح تداولها كسلع استثمارية.
وفي يونيو 2025، أصدر مجلس الدولة توجيهات ملزمة لجميع الهيئات الحكومية بمشاركة بياناتها، تمهيدًا لبناء “محيط بيانات وطني موحد”.
في 15 يوليو 2025، أطلقت الصين نظام الهوية الرقمية الموحدة، الذي يُجسّد سجلًا مركزيًا يوثق جميع الأنشطة الرقمية للمواطنين.
وبهذا النظام، تُقيّد إمكانية شركات التكنولوجيا من ربط هويات المستخدمين بأنشطتهم، بينما تحتفظ الدولة بسجل كامل لكل حركة إلكترونية، مما يعزز رقابة مركزية صارمة ويفتح نقاشات محتدمة حول مستقبل الخصوصية.
تسعى الصين إلى بناء بيئة بيانات شاملة تشمل المستهلكين والقطاع الصناعي والحكومي، ما يتيح لها تفوقًا تقنيًا هائلًا في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي وتطوير حلول مبتكرة. كما يوفر هذا النظام فرصًا للشركات الصغيرة للاستفادة من ثروات البيانات.
لكن هذه السيطرة المركزية تحمل مخاطر جمة، من بينها تقويض الملكية الخاصة للبيانات، والإضرار بحوافز الابتكار لدى الشركات، بالإضافة إلى مخاطر الانتهاكات الحقوقية، وهو ما ينعكس في فضائح تسرب بيانات ضخمة سابقة.
بينما تسعى الديمقراطيات إلى تحقيق توازن دقيق بين الخصوصية والتقدم التقني، تطرح الصين نموذجًا يستند إلى السيطرة والسيادة الرقمية على حساب الحريات الفردية. نجاح هذا النموذج قد يحفز دولًا أخرى على تقليده، ما يضع النظام الديمقراطي أمام تحديات جديدة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي.
في معركة البيانات العالمية، تضع الصين رقابتها في الميزان، لتعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، ليس فقط كقوة اقتصادية، بل كنموذج حكم رقمي جديد قد يعيد رسم خريطة النفوذ في القرن الحادي والعشرين.