في عالم تتسارع فيه الابتكارات وتتصاعد فيه أهمية المعلومات، لم تعد الموارد الطبيعية أو المصانع الضخمة وحدها تقود عجلة النمو، بل أصبحت المعرفة هي الوقود الحقيقي للاقتصاد الحديث.
اقتصاد المعرفة ليس مجرد مصطلح أكاديمي، بل هو نموذج اقتصادي يقوم على تحويل الأفكار والبحوث العلمية إلى منتجات وخدمات ملموسة تخلق وظائف، ترفع من مستوى المعيشة، وتدفع التنمية نحو آفاق أرحب.
ففي الاقتصادات المتقدمة، لم تعد القيمة تُقاس فقط بما تنتجه المصانع، بل بما تنتجه العقول. فقد أدى استثمار هذه الدول في رأس المال البشري، والملكية الفكرية، والبحث والتطوير إلى بناء أنظمة اقتصادية أكثر قدرة على التكيّف والتجدد، تعتمد على الابتكار والتكنولوجيا كمحركين رئيسيين للإنتاجية والتنافسية.
بينما لا تزال الاقتصادات النامية تعتمد بشكل كبير على الزراعة والصناعة، قطعت الدول المتقدمة أشواطًا نحو تبني اقتصاد المعرفة، حيث تشكل الخدمات المرتكزة على الابتكار والتكنولوجيا حجر الزاوية في نماذجها التنموية. هنا، يصبح الاستثمار في العقول والمهارات هو الرأسمال الأهم.
اقتصاد المعرفة يُعتبر بيئة خصبة لإنتاج وتسويق الابتكارات العلمية والهندسية. من خلال أدوات مثل براءات الاختراع، تُحول المعرفة إلى أصول ذات قيمة سوقية، فيتحول العلماء والمخترعون والمبرمجون إلى محرّكات رئيسية للاقتصاد.
ومع تعاظم الترابط بين الاقتصادات، أصبحت المعرفة أحد أبرز موارد التبادل بين الدول.
رغم أن المعرفة والابتكار من الأصول غير الملموسة التي لا تُدرج عادةً في الميزانيات العمومية للشركات، فإنها تُمثل أصولًا استراتيجية حقيقية. فاقتصاد المعرفة يُعلي من قيمة التعليم والتدريب والتخصصات الدقيقة، ويضع “رأس المال البشري” في صدارة عوامل الإنتاج.
و يصنف البنك الدولي اقتصاد المعرفة اعتمادًا على أربعة محاور أساسية:
بنية مؤسسية تشجع على ريادة الأعمال واستثمار المعرفة.
نظام تعليمي متطور يرفد السوق بكفاءات متميزة.
وصول سهل إلى التكنولوجيا والاتصالات الرقمية.
بيئة ابتكار ديناميكية تضم الجامعات، الشركات، والمجتمع المدني.
تتجلى تطبيقات اقتصاد المعرفة في استثمار البيانات الرقمية وتوظيفها في الرعاية الصحية، التعليم، الزراعة والصناعة.
فالمبرمجون والأكاديميون ورواد الأعمال يسهمون في تطوير حلول ذكية تحسّن من جودة الحياة وتدعم الاستدامة.
و في الولايات المتحدة فقط، بلغ حجم سوق الملكية الفكرية 62.18 مليار دولار عام 2023، ووصل سوق مؤسسات التعليم العالي إلى 818.6 مليار دولار.
هذه الأرقام تعكس حجم التحوّل نحو اقتصاد قائم على المعرفة، حيث تصبح الأفكار مورداً مالياً يعادل أو يفوق النفط والغاز.
بناء اقتصاد المعرفة لا يكتمل دون مهارات القرن الحادي والعشرين. إلى جانب التعليم والتدريب التقني، تبرز أهمية مهارات التفكير النقدي، العمل الجماعي، والتواصل الفعال. لذلك طوّر البنك الدولي مؤشر اقتصاد المعرفة، الذي يقيس قدرة الدول على تمكين هذه التحولات.
اقتصاد المعرفة ليس مجرد خيار تنموي، بل هو ضرورة في عالم تتغير فيه قواعد النمو. فبينما تتضاءل أهمية الموارد التقليدية، تزداد أهمية العقول القادرة على الابتكار.
وبينما يصعب أحيانًا قياس قيمة المعرفة في الدفاتر المحاسبية، فإن أثرها في الواقع الاقتصادي لا يمكن إنكاره.
إنه الاقتصاد الذي تُولد فيه الثروات من الأفكار، وتُصاغ فيه السيادة من خلال البحث، وتُبنى فيه القوة من خلال التعليم.
