آدم سميث والرأسمالية اليوم: هل ما زالت أفكاره صالحة؟
في ظل التحولات الجذرية التي يشهدها العالم اليوم، يبدو أن النظام الرأسمالي، الذي ظل لقرون يعتبر الأساس الاقتصادي الرئيسي للعالم، وصل إلى مفترق طرق حاسم.
ففي الوقت الذي تتسارع فيه التغيرات السياسية والاقتصادية، يظهر إجماع متزايد بين مختلف الاتجاهات السياسية، سواء اليسار أو اليمين، على أن الرأسمالية لم تعد قادرة على أداء وظيفتها على النحو الأمثل.
التيار اليساري يطالب بإعادة إحياء مبادئ الاشتراكية الديمقراطية، في حين أن اليمين، الذي لطالما دافع عن النظام الرأسمالي، بدأ يشهد نموًا للشكوك حول فوائد التجارة الحرة وآثارها.
و في خضم هذه التحولات، أصبح من الضروري النظر في التحديات الاقتصادية والاجتماعية بشكل أعمق، وإيجاد حلول جديدة تتجاوز الانقسام السياسي الحالي.
في هذا السياق، تصبح أفكار آدم سميث، الأب المؤسس للرأسمالية، ذات أهمية خاصة. إذ يتيح لنا فهم رؤية سميث الاقتصادية إعادة التفكير في العديد من القضايا الاجتماعية والسياسية الراهنة، والتوجه نحو إصلاحات اقتصادية أكثر توازنًا وإنسانية.
لطالما ارتبط اسم آدم سميث بمفهوم “اليد الخفية” الذي يُستخدم لتبرير الأسواق الحرة. لكن الفهم العميق لهذه الاستعارة يكشف عن رؤية مغايرة لتصور سميث حول دور الاقتصاد في المجتمعات.
ففي كتابه “نظرية المشاعر الأخلاقية” (1759)، يوضح سميث أن تصرفات الأفراد، حتى تلك المدفوعة بالأنانية، يمكن أن تؤدي إلى تحسين حياة الفقراء من خلال التفاعلات الاقتصادية التي تؤدي إلى توزيع السلع والخدمات بشكل أكثر كفاءة.
ورغم اعتراف سميث بوجود التفاوت الاقتصادي، فقد ركز على قدرة الأسواق على تخفيف حدة الفقر وتحسين مستوى معيشة الطبقات الأكثر ضعفًا، بدلًا من التركيز على تقليص الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
وقد كانت هذه الرؤية لآدم سميث بوصلة مهمة في فهم كيفية مواجهة تحديات اليوم.
في مؤلفه الشهير “ثروة الأمم”، يقدم سميث رؤيته للاقتصاد باعتباره ليس مجرد آلية لزيادة الإنتاجية أو تراكم الثروات، بل وسيلة لتحسين حياة الأفراد، وخاصة الأكثر حاجة.
يرى سميث أن ازدهار الأمة يجب أن يُقاس بقدرتها على تحسين معيشة الأفراد الأكثر ضعفًا، وهذا المفهوم يربط بشكل عميق بين العدالة الاجتماعية والأداء الاقتصادي.
ورغم تأكيده على أهمية الأسواق الحرة، لم يغفل سميث عن التحديات الأخلاقية التي قد تنتج عنها، بل أشار إلى العديد من الجوانب السلبية التي يمكن أن تظهر نتيجة سعي الأفراد نحو المال والمكانة الاجتماعية.
في هذا الصدد، يحذر من أن التنافس المستمر على الثروة قد يؤدي إلى فساد اجتماعي يؤثر سلبًا على النسيج الاجتماعي للمجتمعات.
قد يدهش البعض عند معرفة أن سميث، الذي دافع عن النظام الرأسمالي، كان أيضًا ناقدًا حادًا لآثاره السلبية على المجتمع. في كتابيه “نظرية المشاعر الأخلاقية” و”ثروة الأمم”، تناول سميث ظاهرة “الفساد الاجتماعي” الناتج عن التفاوت الطبقي.
وكان يعتقد أن سعي الأفراد وراء المال لا يقتصر على الاحتياجات المادية فحسب، بل يمتد إلى السعي لتحقيق مكانة اجتماعية، مما يترتب عليه تكاليف جسيمة على الصعيدين الشخصي والاجتماعي.
وقد أشار سميث إلى أن هذه الدوافع تؤدي إلى حالة من التفوق الاجتماعي الذي يساهم في تعزيز الفساد الاجتماعي ويعزز من الشرخ بين الطبقات. كما نبه إلى أن هذا التوجه قد يعزز أيضًا احتقار الفقراء والمهمشين، مما يؤدي إلى تفكك الأواصر الاجتماعية.
وعلى الرغم من أن سميث كان يشير إلى فساد المجتمع التجاري، إلا أن رؤيته لم تكن تتعلق فقط بالانتقاد، بل أيضًا بتقديم حلول لمعالجة هذه الإشكاليات. في مراحل متقدمة من حياته، عاد سميث إلى “نظرية المشاعر الأخلاقية” وأضاف إليها مراجعات حول الفضيلة في السياق التجاري.
هذه المراجعات تُظهر كيف يمكن للفضيلة أن تعود إلى المجتمعات التجارية الحديثة، حتى في ظل الازدهار المادي.
كان سميث يعتقد أن توازنًا بين الفضيلة والازدهار المادي ممكن، وأن النظام الرأسمالي يمكن أن يعزز القيم الأخلاقية إذا تمت إعادة توجيهه بشكل صحيح. في هذا الإطار، يقدم لنا سميث رؤية عن كيفية التفاعل بين القيم الإنسانية والأسواق الحرة.
و في النهاية، لا يقدم لنا سميث فقط تحليلًا اقتصاديًا عميقًا، بل يدعونا إلى مراجعة شاملة للقيم التي تحكم المجتمعات التجارية.
وهو لا يكتفي بالتأكيد على ضرورة التوازن بين الثراء المادي والعدالة الاجتماعية، بل يدعو أيضًا إلى تبني نموذج أخلاقي يتجاوز سعي الأفراد نحو المال والمكانة.
إن العودة إلى أفكار سميث ليست مجرد محاولة لاسترجاع أفكار تاريخية، بل هي دعوة لإصلاح النظام الاقتصادي العالمي وجعله أكثر إنسانية وعدلاً.
في مواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية الحالية، قد تكون دروس سميث هي البوصلة التي توجهنا نحو مستقبل أكثر إشراقًا وأقل انقسامًا.