الاقتصادية

ما لم يتحقق… هو أيضًا جزء من الإنجاز

نميل في سرد قصصنا إلى تمريرها عبر مصفاة النجاح. ننتقي اللحظات اللامعة، الجوائز، الاعترافات، ونُغفل عن عمد تلك الزوايا المعتمة — الإخفاقات، المشاريع المتعثرة، الأحلام التي لم تكتمل. كأن الفشل وصمة، لا ذكرى تستحق التوثيق.

لكن ماذا لو كان لتلك اللحظات المتعثرة وزن آخر؟ ماذا لو كانت محاولاتنا الفاشلة تحمل قيمة لا تقل عن نجاحاتنا المعلنة؟ هذا ما اكتشفته الدكتورة دورثي تشين، أستاذة علم النفس في جامعة كاليفورنيا، حين قررت أن تُنقّب في الجانب المُهمَل من رحلتها المهنية.

رغم تكريم رسمي احتفى بإنجازاتها الأكاديمية الممتدة على مدار 25 عامًا، لم تشعر بالرضا. كان هناك شيء ناقص في الرواية. فكل ما كُتب عنها بدا مشرقًا ومنسقًا، لكنه لم يُشبهها. لم يعكس المحاولات التي فشلت، والنضالات التي لم تُؤتِ ثمارها.

في لحظة تأمل عميق، قررت أن تكتب قائمة من نوع مختلف: ليست قائمة إنجازات، بل قائمة إخفاقات. وما إن بدأت بالكتابة، حتى تسرّبت إليها مشاعر غريبة من الرضا — شعور صادق لم تمنحه لها صفحات المجد الرسمية.

ما دونته كان بمثابة سيرة غير مكتوبة لحياة مهنية أخرى، ظلّت طيّ النسيان. لحظات تحدّت فيها الصمت المؤسسي ولم تجد استجابة. مبادرات تقدّمية لم تُقدّر.

برامج طلابية بدأت بحماسة ثم تلاشت. أحلامٌ بخلق مساحات إنسانية فشلت في عبور العتبة الإدارية.

لكن كل محاولة منها — رغم فشلها — كانت تحمل دليلاً حيًا على شيء لا يمكن تجاهله: أنها لم تتوقف عن المحاولة. لم تتقوقع في منطقة الراحة. كانت تؤمن بما يستحق الكفاح، حتى لو لم يُترجم إلى نتائج ملموسة.

في ثقافة لا تُكافئ إلا النتائج، نُدرّب أنفسنا على نسيان المحاولات التي لم تنجح. لكن بمرور الزمن، اكتشفت تشين أن النجاح ليس دائمًا مقياس القيمة. كثير من النجاحات تأتي من مهام يومية لا تُغير العالم. أما الفشل الحقيقي؟ فهو في التوقف عن المحاولة، لا في التعثر أثناء الطريق.

لا تُنكر تشين أن أفكارها المرفوضة نُفّذت لاحقًا على يد آخرين، ربما بكفاءة أعلى، أو في توقيت أنسب. لكنها لم تعد تبحث عن الاعتراف أو تبرير أن فكرتها “كانت على حق”. ما يهم الآن هو أنها كانت تحاول فعل شيء له معنى.

تؤمن تشين الآن أن الإخفاقات ليست فقط دليلًا على الإقدام، بل على الهوية. فبينما تُعرّفنا إنجازاتنا أمام الآخرين، فإن إخفاقاتنا تُعرّفنا أمام أنفسنا. كل باب طُرق ولم يُفتح، كل فكرة لم تُنفّذ، كانت مرآة تعكس ما آمنت به، وما كانت مستعدة للقتال من أجله.

وفي عالم سريع، مشبع بثقافة “منصة التتويج”، تبقى تلك المحاولات الصامتة دليلاً على شجاعة من نوع آخر: شجاعة المجرّب، لا الفائز.

ربما لا يُكتب عن من لم ينجح، وربما لا يُمنح وسام لمن لم يُحقق هدفه. لكن في نهاية المطاف، القيمة لا تكمن فقط في ما تحقق، بل في من كنا حين حاولنا. إخفاقاتنا ليست عارًا نُخفيه، بل فصلًا لا غنى عنه من كتاب الحياة.

فصلًا يحمل الصدق، والإصرار، والنية النبيلة — وهي أحيانًا، أصدق من النتيجة ذاتها.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى