رهانات تتجاوز الأسهم: كيف يقرأ كبار المستثمرين مسار الدول لتجنب الأزمات الكبرى؟

في عالم المال، لا يقتصر نجاح المستثمرين على متابعة الأسهم أو السندات، بل يتطلب أحيانًا قراءة أعمق لمسار الدول نفسها.
يتتبع كبار المستثمرين تحركات العملات وأسعار الفائدة والاقتصادات الوطنية، لكن رهاناتهم تتجاوز الاستثمارات التقليدية؛ فهي تعتمد على فهم شامل للسياسات المالية والنقدية، وهياكل المؤسسات، والقرارات الاقتصادية طويلة الأمد لكل دولة.
يُعد راي داليو، مؤسس شركة بريدج ووتر (Bridgewater Associates)، من أبرز المستثمرين الذين تمكنوا على مدى خمسة عقود من تحقيق أرباح ضخمة عبر دراسة ديناميكيات الدول.
وفي كتابه الأخير، “كيف تُفلس الدول” (How Countries Go Broke)، يكشف داليو عن استراتيجيته في تقييم المخاطر الاقتصادية الكبرى وكيفية التنبؤ بالأزمات قبل وقوعها.
يركز داليو على الأزمات التي تحدث مرة في كل جيل، وهي تحولات غالبًا ما يفوتها معظم المستثمرين وصنّاع السياسات حتى بعد وقوعها.
ويشير إلى أهمية دراسة البيانات التاريخية الممتدة عبر عقود طويلة، لتمييز “دورات الديون الكبرى” عن الدورات الاقتصادية القصيرة الأجل، التي تحمل تأثيرًا أقل على الاقتصاد الوطني.
ويؤكد داليو أن تراكم الديون نتيجة سياسات الإقراض غير المنضبطة هو السبب الرئيس للأزمات المالية الكبرى، مضيفًا: “قلة قليلة من الدول استطاعت تجنب هذه الأزمات، بينما دمرت الديون غير المنضبطة اقتصادات دول عديدة عبر التاريخ”.
يشير الكتاب إلى إمكانية التنبؤ بتوقيت الأزمات عبر متابعة مؤشرات محددة، تشمل الدين العام، النمو الاقتصادي، الادخار، أسعار الفائدة، والعجز في الميزانية. ومع ذلك، يوضح داليو أن هذه المؤشرات لا تضمن توقيتًا دقيقًا، فالاستثمار في مرحلة مبكرة ضد ديون دولة ما قد يؤدي إلى خسائر طويلة قبل أن تتحقق المكاسب.
ويؤكد الاقتصاديون مثل جون ماينارد كينز على أن الأسواق يمكن أن تبقى غير عقلانية لفترات أطول من قدرة المستثمر على تحمّل الخسائر، ما يجعل التوقيت عاملًا حاسمًا في نجاح الاستثمارات الكبرى.
حتى بالنسبة لمن لا يمتلكون موهبة داليو في توقيت دورات الديون، فإن تحليلاته تمثل تحذيرًا مهمًا لصنّاع السياسات. ويشير داليو إلى أن الولايات المتحدة وعددًا من الدول الكبرى تمر في المراحل المتأخرة من دورات ديونها الكبرى، مع احتمال عالٍ لإعادة هيكلة مالية أو طباعة نقدية لتغطية الدين خلال السنوات القادمة، بنسبة تصل إلى 65%.
يخصص داليو جزءًا مهمًا من كتابه لمراجعة السياسات الاقتصادية الكلية، مثل تجربة اليابان بعد أزمة التسعينيات، حيث ينتقد الفشل في شطب الديون والذي أدى إلى تراكمها وإضعاف النمو لعقود.
أما في حالة الولايات المتحدة، يقترح داليو خفض العجز المالي إلى نحو 3% من الناتج المحلي الإجمالي كخطوة لتحقيق الاستقرار، رغم أن الدين الأمريكي قد يستمر في الصعود بفعل أسعار الفائدة المرتفعة على المدى الطويل.
يبقى درس داليو الرئيسي أن التاريخ الطويل والتوقيت هما المفتاح لفهم الأزمات المالية الكبرى. سواء كنت مستثمرًا يبحث عن فرص ربحية أو صانع قرار يسعى لاستدامة الاقتصاد، فإن قراءة الأنماط التاريخية وتحليل البيانات الاقتصادية العميقة يمثلان الخطوة الأولى نحو التعامل مع التحديات المالية الكبرى بثقة ووعي.