الاقتصادية

الكرم في الأجور: استراتيجية استثمارية للنمو المستدام

في الوقت الذي تُدير فيه معظم الشركات دفّتها وفق منطق “الربح السريع والتكلفة الأقل”، يبدو أن التركيز على خفض النفقات، ولا سيما الأجور، بات أقرب إلى سياسة تلقائية أكثر منه قرارًا استراتيجيًا.

غير أن المتغيرات المتسارعة في بيئة العمل تشير إلى ضرورة مراجعة هذه القناعات، وطرح سؤال جوهري:
هل يمكن أن يكون “الكرم في الأجور” هو الرهان الأذكى على المدى الطويل؟

يرى عالم النفس الإداري الشهير “آدم جرانت” أن منح الموظفين رواتب سخية ليس مجاملة أو ترفًا، بل هو أحد أكثر الاستثمارات فعالية.

فمن وجهة نظره، تُسهم الأجور المرتفعة في تقليص معدلات دوران الموظفين، وترسيخ الشعور بالانتماء، وتوفير تكاليف التوظيف والتدريب التي تستهلك موارد ضخمة مع مرور الوقت.

وفي حديث لمجلة فورتشن، شدد جرانت على أن المكافآت المجزية، حتى تلك التي تبدو “أعلى من المعتاد”، تعكس وعيًا إداريًا حقيقيًا بقيمة العامل البشري، وتؤسس لعلاقات عمل قائمة على الولاء المتبادل بدلًا من العقود المؤقتة والولاءات المتذبذبة.

قد تبدو زيادات الرواتب مكلفة في ظاهرها، لكن الأرقام تحكي قصة أخرى. فبحسب دراسة لمؤسسة غالوب، يُمكن أن تصل كلفة فقدان موظف إلى ضعف راتبه السنوي، بسبب ما يترتب على ذلك من خسارة المعرفة المؤسسية، وتكاليف التوظيف والتدريب من جديد.

وعلى الرغم من أن الزيادة السنوية في الأجور خلال عام 2024 لم تتجاوز 3.8%، فإن الموظفين الذين بقوا في وظائفهم حققوا زيادات طفيفة بنسبة 4.6%، مقابل 4.8% فقط للذين غيّروا وظائفهم — وهو فارق محدود لا يعوّض مخاطر التنقل وعدم الاستقرار.

تقديم رواتب تعكس القيمة الفعلية للموظف يُشعره بأنه شريك حقيقي في النجاح. هذه الثقة تخلق بيئة عمل يُعاد فيها تعريف العلاقة بين العامل والمؤسسة، من علاقة استغلالية إلى شراكة استراتيجية.

بيانات شركة فيغرز إتش آر تشير إلى أن الرواتب المرتفعة ترتبط مباشرة بزيادة التفاعل والمشاركة في العمل. أما مؤسسة غالوب فتؤكد أن تفاعل الموظفين يؤثر بوضوح على النتائج، حيث تسجل الشركات المتقدمة في هذا الجانب:

  • انخفاضًا في الغياب بنسبة 78%

  • نموًا في الإنتاجية بنسبة 18%

  • وزيادة في الأرباح بنحو 23%

رغم هذه الأرقام، لا تزال بيئة العمل تميل لصالح أرباب العمل. فوفقًا لمسح أجرته مؤسسة هاريس لصالح بلومبيرغ نيوز، يرى 75% من الموظفين أن القوة التفاوضية اليوم تتركز في يد الشركات لا الأفراد.

ومع معدل توظيف لا يتجاوز 3.4% في يناير — وهو الأدنى خلال عشر سنوات — وتراجع في إعلانات الوظائف بنسبة 8.6% في ديسمبر الماضي، يبدو أن سوق العمل يتحرك ببطء، والشركات تتريث في قراراتها.

إن التفكير في الأجور على أنها “كلفة لا مفر منها” لم يعد مجديًا في زمن تُقاس فيه جودة المؤسسة بقدرتها على استقطاب أفضل العقول والاحتفاظ بها. الأجور المجزية تحفّز، تُلهم، وتُنتج بيئة عمل حيوية ومستقرة.

وفي نهاية المطاف، تظل الرواتب قرارًا استراتيجيًا يجب أن يُبنى على نظرة شمولية: هل نريد موظفًا يعمل… أم شريكًا يبدع؟

الشركات التي تفهم الفرق، هي من تبقى في القمة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى