الإغراق المعلوماتي…أزمة المتداولين في عصر البيانات

لطالما عانى المتداولون في سوق الأسهم من عقبات تقليدية، مثل نقص المعلومات الدقيقة ومحاولات التلاعب، أو افتقار الكثيرين منهم للأساسيات التي تُبنى عليها استراتيجيات التداول السليم.
ومع تسارع وتيرة العصر الرقمي، ظهرت مشكلة جديدة تتجاوز تلك التحديات القديمة: ظاهرة “الإغراق المعلوماتي”.
حيث أدى تكدس البيانات ووفرتها إلى تعقيد عملية اتخاذ القرار بدلاً من تسهيلها، ليجد المستثمر نفسه غارقاً في بحر من المعلومات غير المصفاة التي تعيق تمييز الجوهر من الضجيج.
تشير أبحاث حديثة، ومنها دراسة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، إلى أن ارتفاع مستوى الإغراق المعلوماتي يقود إلى تراجع حجم التداول، وقد يصل هذا الانخفاض في بعض الأحيان إلى 15%.
يعود السبب إلى الحيرة والتردد التي تصيب المستثمرين في ظل كميات هائلة من الأخبار والتقارير والآراء المتناقضة، ما يجعلهم مترددين في اتخاذ قرارات سريعة أو جريئة.
وتتفاقم هذه المشكلة لدى المضاربين، الذين يعتمدون بشكل كبير على المعلومات اللحظية، حيث ارتفعت نسبة المضاربين المتأثرين بهذه الظاهرة من 52% عام 2001 إلى أكثر من 80% في 2023.
لا يقتصر تأثير الإغراق المعلوماتي على السلوك الفردي فقط، بل يمتد ليؤثر على هيكل السوق نفسه.
و تظهر البيانات أن الفترات التي تشهد ارتفاع الإغراق المعلوماتي غالباً ما تترافق مع زيادة في عوائد الأسهم المستقبلية بنسبة تتراوح بين 3% و5%، نظراً لمطالبة المستثمرين بعلاوة مخاطرة أعلى لتعويض حالة عدم اليقين والتشويش.
وتكون هذه الظاهرة أكثر وضوحاً في الأسهم الصغيرة أو ذات التقلب العالي، حيث تتصاعد احتمالية الخسائر نتيجة لصعوبة التقييم في بيئة مليئة بالمعلومات المتضاربة.
من اللافت أن الإغراق المعلوماتي لا يقتصر تأثيره على البشر فقط، بل يمتد إلى أداء أنظمة الذكاء الاصطناعي.
فقد أظهرت دراسة جامعة ملبورن أن جودة تحليلات نماذج الذكاء الاصطناعي للأخبار المالية تتحسن في البداية مع زيادة حجم البيانات، لكنها تتراجع بعد تجاوز حد معين، وصولاً إلى أداء عشوائي يشبه “التشويش”.
هذا يعكس أهمية التوازن في كمية البيانات المُعالجة حتى بالنسبة للأنظمة الذكية. وتشير الدراسات إلى أن نماذج تحليل المكالمات المالية تعتمد منحنى أداء “U” مقلوب حيث تزداد الدقة ثم تتراجع مع زيادة الكم.
ورغم هذه التحديات، تبرز أدوات الذكاء الاصطناعي كوسيلة فعالة للتخفيف من حدة الإغراق المعلوماتي.
و على سبيل المثال، أظهرت دراسة أن استخدام نماذج مثل “تشات جي بي تي” في تحليل تقارير الأرباح يقلل ظاهرة “الانجراف بعد إعلان الأرباح” بنسبة تصل إلى 30%.
أما في دراسة أخرى بجامعة ستانفورد، فقد تفوق نموذج مغلق المصدر على 93% من مديري الصناديق الاستثمارية خلال 30 سنة، محققاً متوسط عائد إضافي بنسبة 600%، معتمداً على دمج البيانات المالية مع تحليلات المشاعر النفسية.
يزيد الاعتماد الكبير على وسائل التواصل الاجتماعي من تعقيد المشهد، إذ تُغذي خوارزميات هذه المنصات الأخبار أحادية الاتجاه.
فإذا تابع المتداول محللاً يُرشح الشراء، ستعرض المنصة بشكل مستمر محتوى مشابه، مما يقلل من رؤية الصورة الكاملة ويزيد من الانحياز التأكيدي.
وقد وجدت دراسة بجامعة كولورادو أن انخفاض معنويات المستخدمين على منصات مثل X يؤدي إلى مزيد من تراجع الأسعار، وأن زيادة حجم النقاش حول سهم معين غالباً ما تسبق أداء سلبياً له، ما يعرف بـ”الضجيج الإعلامي”.
كما يمتد التأثير الاجتماعي إلى العلاقات الشخصية، حيث أن المستثمرين الذين لديهم أصدقاء في مناطق شهدت ارتفاعات في الأسعار يميلون لتبني نظرة أكثر تفاؤلاً، حتى بدون معرفة مباشرة بالسوق.
وهذا يعزز ظاهرة “العدوى المالية” بين الشبكات الاجتماعية.
ويظهر التأثير بوضوح في الجيل الجديد، حيث يعتمد أكثر من 60% من المستثمرين الشباب على محتوى “الفينفلونسرز” في التيك توك وإنستجرام، مع أن الكثير من هذه المحتويات تفتقر إلى الشفافية أو التصريحات الرسمية، مما يعرض المتابعين لمخاطر تضليل.
في ظل هذا الواقع المعقد، يصبح التعامل الذكي مع الإغراق المعلوماتي ووسائل التواصل والذكاء الاصطناعي ضرورة لا مفر منها للحفاظ على رأس المال وتعظيم الأرباح:
تصفية المعلومات بعناية: لا تصدق كل خبر أو تحليل، وركّز على مصادر موثوقة وتقارير رسمية، وابتعد عن التفاعل العاطفي مع الأخبار العاجلة أو منشورات التواصل الاجتماعي.
استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة لا كبديل: الذكاء الاصطناعي قوي لكنه ليس معصومًا، لذلك استعمله لتحليل الاتجاهات وتلخيص التقارير، ولا تعتمد عليه وحده في اتخاذ القرار.
التحليل النقدي لمنصات التواصل: تابع المؤثرين الماليين بعين ناقدة، وراجع مصادرهم دائماً، ولا تتخذ قرارات مهمة بناءً على فيديوهات قصيرة أو منشورات عاطفية.
باختصار، مواجهة الإغراق المعلوماتي تحتاج توازنًا بين الاستفادة من التكنولوجيا والتمسك بالحكمة والخبرة البشرية، لتجاوز الفوضى المعلوماتية نحو تداول أكثر وعيًا ونجاحًا.