كيف يخسر كثيرون أموالهم في سوق الأسهم بسبب الإيحاء؟
عندما قرر “أحمد” الشراء في سهم الشركة “أ”، جاء ذلك بعد أن نصحه سمسار الأسهم الخاص به بذلك، وما دعم قراره بالشراء كان ما قاله صديقاه، هشام وكريم، بأن هذا السهم في طريقه للصعود سعريًا بشكل لافت في المرحلة المقبلة لقوة أداء الشركة ولشعبية السهم الكبيرة.
وبعد أن اشترى أحمد السهم عند مستوى 100 ريال فوجئ به يتخذ اتجاها تنازليًا خلال أول شهرين ليصل عند مستوى 90 ريالًا للسهم وليظل عند هذا المستوى لأشهر، وهو ما دفعه للتساؤل حول مدى نجاعة القرار الذي اتخذه بشراء هذا السهم دون غيره.
تنوعات كثيرة.. والمصدر واحد
المشكلة في عصر وسائل التواصل الاجتماعي أنك قد تجد توصية بشراء سهم على 100 حساب وصفحة، بما يجعلك تعتقد في جدارة هذه التوصية وتقوم بشراء السهم بالفعل، بينما يكون منبع هذه التوصية شخصا واحدا فقط أو حسابا واحدا فقط نقل الجميع عنه بما جعل الأمر يبدو كما لو أن هناك تحليلات عدة تتكهن بصعود هذا السهم بينما هو في واقع الأمر تحليل أو حتى مجرد “تكهن” واحد.
ويمكن القول إن “أحمد” هنا وقع فريسة لـ”الإيحاء” أو “غرس الفكرة” (inception ) حيث إن تردد فكرة بعينها لمرات كثيرة أمام الشخص يجعله يقبلها بوصفها حقيقة غير قابلة للنفي، بغض النظر عن مصدر هذه الحقيقة أو قوة الأسانيد التي ترتكن عليها.
فعلى سبيل المثال ارتفع مؤشر “ناسداك”، والذي يضم الشركات التكنولوجية، بنسبة فاقت 28% بين نهاية مايو 2023 ونهاية مايو 2024 بفعل قوة “الإيحاء” وليس حتى بفعل التوقعات، فالتوقعات حول الوفورات التي سيحققها الذكاء الاصطناعي حتى الآن متباينة، وهناك إجماع أن الإنفاق عليه في المرحلة الحالية يفوق إيراداته بنسبة كبيرة للغاية.
ويعد هذا الأمر منطقيًا لأن الذكاء الاصطناعي في ظل مرحلة النمو والتطوير والتوسع لذا فمن الطبيعي أن تكون النفقات أكبر من الإيرادات بنسب كبيرة، ولكن يبقى السؤال هل من “الرشادة” الاستثمار في توقعات المستقبل للذكاء الاصطناعي الإيجابية فحسب.
الإيحاء وصعود أسهم الذكاء الاصطناعي
حسنًا، يبدو الأمر مبهرًا للوهلة الأولى، في ظل أدوات تكنولوجية قادرة على اكتشاف بعض الأمراض بكفاءة والترجمة بطلاقة وأداء عشرات المهام الأخرى، لكن التوقعات حول آثار الذكاء الاصطناعي ومستقبله متناقضة للغاية، منها ما يصل لمرحلة الخوف من ذكاء اصطناعي “واع” يسيطر على البشرية.
لذا يمكن القول بأن المحرك الرئيسي لصعود المؤشر ليس قوة الاقتصاد الأمريكي ومعدلات تشغيله المرتفعة حاليًا، ولكن “الإيحاء” من خلال الأخبار المتواترة بآثار الذكاء الاصطناعي الاستثنائية على المستقبل، ومن ذلك أن الدراسات النفسية تشير إلى أن أكثر من 90% من المتعاملين في السوق يقعون فريسة الانحياز التأكيدي، أي الاهتمام بالأخبار التي تدعم قناعاتهم وتجاهل تلك المعاكسة لها.
ومع سيادة الطمع على حساب الحذر أو الخوف بين 80% من المتعاملين في السوق فإن هناك قناعة راسخة تدفع نحو الاعتقاد بنمو السوق في المستقبل القريب، بما يجعل تقبل الأخبار أو”التنبؤات” التي تتوقع نمو السوق والمؤشرات الرئيسية للأسهم تتفوق على دعوات الحذر والتنبه في كثير من الأحيان.
لماذا يزيد تأثير الإيحاء على المتداولين؟
ومن أهم العناصر التي تزيد من تأثير “الإيحاء”، أن 94% من صغار المستثمرين لا يمكنهم التفرقة بين المعلومات الهامة وتلك الفرعية غير المهمة، وفي ظل مئات الأسهم وعشرات المؤشرات وعشرات الآلاف من المتغيرات يصبح اللجوء للرأي غير المستند إلى تحليل متكامل ولكن إلى “ما يسمعه” المتداول أيسر وأقل تكلفة في الوقت والجهد.
وبناء على ذلك يكشف 40% من المستثمرين في السوق الأمريكي أنهم يتخذون قراراتهم الاستثمارية بناء على “اتجاه السوق” خلال الفترة الأخيرة، وليس بناءً على تحليل واف لمتغيرات السوق بشكل كامل، بل ومنهم من يقر صراحة بأنه “يختبر حظه” في السوق.
ولهذا يتجنب الكثير من المستثمرين ضخ أموالهم خارج مجموعة من الأسهم ولا يبحثون خارجها، حيث تترسخ لديهم “انطباعات” بأن هذا سهم سيئ وهذا سهم جيد، وذلك بناء على الخبرة الشخصية في الربح أو الخسارة أو بناء على ما سمعه من متداولين آخرين أو خبراء في السوق أو غيرهم.
وتصل النسبة التي تعمل بـ”الإيحاء” أو بالانطباعات في الحياة بشكل عام إلى 85% (70% لا يغيرون الانطباعات الأولى مطلقًا والنسبة الباقية قد تغيرها ولكن بغير أسس حقيقية ومعلومات ولكن بتردد آراء أخرى مناقضة للآراء الأولى بغير أسانيد تدعمها)، واللافت أن النسبة لا تختلف كثيرًا في عالم الأسهم.
فقرابة 85% من المتعاملين في الأسواق يبقون تعاملاتهم في السوق بناء على التغيرات قصيرة المدى، وعلى ذلك يستخدمون تعبير “أنا في السوق” أو “أنا خارج السوق” لأنهم يتحركون بناء على الآراء التي يسمعونها والإيحاءات بارتفاع السوق أو انخفاضها بسبب منحنيات الصعود أو الهبوط وليس بناء على خطة ودراسة حقيقية.
أسس حقيقية أم “متوهمة”؟
بل ويصل البعض إلى أن يكون الإيحاء “ذاتيا” بمعنى أن يكون الشخص هو مصدر المعلومة لنفسه، فوفقًا لدراسة لجامعة “ستانفورد” عام 2014 فإن 36% من المتعاملين بالسوق يشترون ويبيعون الأسهم وفقًا لما “يشعرون به” دون أن يعملوا بأنفسهم مطلقًا سواء في التحليل الفني أو الأساسي.
ويعد “أنتوني مالوي” المحلل في شؤون إدارة الأصول أن الفارق بين 1.5% من المتداولين الذين ينجحون في حصد الأرباح وتنمية رؤوس أموالهم وهزيمة السوق وباقي الـ98.5% هو التصرف بناءً على أسس “حقيقية” وليست متوهمة.
ويشير “مالوي” إلى أن مهمته بإقناع الكثير من المتداولين بأن خياراتهم الأفضل ليست من تلك التي يتناولها الجميع أو من تلك التي تنتشر على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الفيديوهات وغيرها من وسائل الإعلام تكون مهمة صعبة.
ويدلل “مالوي” على ذلك بأنه يصعب للغاية على أي محلل أو وكيل أن يوصي عميلا بعدم شراء أسهم قطاع التكنولوجيا في ظل المحتوى الجارف الذي يتحدث عن وفورات الذكاء الاصطناعي، فقبول مثل هذه التوصيات يحتاج إلى متداول يعرف تأثير وجود اتجاه سائد في الأسواق أولا ويثق في مستشاريه ثانيا.
ويقدر “مالوي” أن أكثر من 60% من المستثمرين الذين يتعامل معهم كثيرًا ما يلجأون لاتخاذ قرار بالسير مع الاتجاه السائد في السوق، ويغالط بعضهم نفسه بأنه لا يمكن أن يكون محقًا “ويكون كل هؤلاء مخطئين”، عادّاً أنه “من الصعب للغاية أن تسير في اتجاه ترى الجميع عائدين منه”.
والشاهد أن هؤلاء الذين يحركهم “الإيحاء” في الأسواق غالبًا ما يخسرون أموالهم بشكل سريع، وحتى إن ربحوا في أول الأمر، فإنهم سريعًا ما يخسرون لاحقًا، ولذلك فإن 50% فقط من المتداولين يبقون في سوق الأسهم بعد عامهم الأول، وتقل النسبة إلى 10% فحسب بعد العام الخامس.
ولذلك فإن على أي شخص عموما، والمتداول خصوصًا، أن يتساءل دومًا عن مصدر “قناعاته” ويحللها ويتأكد من وجود جذور لها، فبذلك فقط يستطيع أن يسعى لحصد الأرباح في سوق الأسهم، بينما الاعتماد على “الإيحاء” يؤذي صاحبه ويقوده إلى الخسائر.