هل تُصبح آراء المستثمرين رهينة بمن يقولها؟ ظاهرة البوميرانغ تُهدد سوق الأسهم
هل سبق لك رؤية خشبة “البوميرانغ” من قبل؟.. حسنًا هي خشبة بانحناءات متطابقة وإذا تم رميها بصورة معينة فإنها تعود إلى من ألقاها، ولذلك كثيرًا ما تستخدم في الإشارة إلى التأثير الارتدادي للأشياء، أي عودة الأشياء إلى ما كانت عليه لسبب أو لآخر.
وبدأت البوميرانغ كأداة للقتال والحفر في الحضارات القديمة، ولكنها تطورت مع الوقت لتتحول إلى رياضة ترفيهية، بل وأصبحت مصطلحًا مستخدمًا في العديد من المجالات، مثل الفيزياء لوصف تأثير الهواء بصورة معينة على حركة جسم، بل وتستخدم في العلوم الاجتماعية لوصف إعادة توظيف موظف سبق له العمل في الشركة وتركها مثلا.
وفي عالم الأسهم كثيرًا ما يستخدم تأثير البوميرانغ في ناحيتين، الأولى في تأثير “مادي” بحت متعلق بارتدادات الأسهم صعودًا وهبوطًا، والثانية في تناول الأثر النفسي لظاهرة البوميرانغ على المتداولين في أسواق المال والأسهم.
أما عن الأثر المادي، فيمكن أن نضرب مثلًا بأكثر شركة أثارت الاهتمام في الأسواق العالمية في الآونة الأخيرة، ففي العاشر من مارس 2023 لم يكن سعر سهم شركة “إنفيديا” يتجاوز 230 دولاراً، وفي السابع من مارس 2024 بلغ سعر السهم قمة غير مسبوقة عند 927 دولاراً أي أن سعره تضاعف أكثر من أربع مرات خلال عام واحد.
وبالتالي فمن استثمر ألف دولار في السهم أصبح 4 آلاف بعد عام، وتناول كثير من التحليلات أسباب هذا الصعود اللافت، من نشاط قطاع أشباه الموصلات الأمريكي من جهة، وصعود الأسهم المرتبطة بالذكاء الاصطناعي من جهة، ولكن هذا ليس ما يهمنا هنا، ولكن ما يهم هو كيفية الصعود وتحركاته والتأثير “النفسي” الذي يؤدي لتحرك البوميرانغ.
فالسهم وصل لقمة تاريخية -وقتها- في فبراير 2024 مثلا قرب 740 دولارا ثم فقد 10% من قيمته خلال أسبوع فحسب، بسبب البيع الارتدادي، حيث إن الوصول للقمة يغري كثيرين للبيع لـ”حصد الأرباح”، حيث يتخوفون من تأثير القمم التاريخية على مالكي السهم في إغراء البيع من جهة ومخاوف التراجع من جهة أخرى، وعندما يسود هذا التوجه لدى قطاع من حائزي السهم فإن سعره ينخفض.
والشاهد أن الكثير من مستشاري سوق المال يستخدمون استراتيجية بعينها مع من يديرون حساباتهم المالية في سوق الأسهم بترجيح نظرية تحفز التأثير الارتدادي ببيع جزء من الأسهم والاحتفاظ بالجزء الآخر عند بلوغ قمم سعرية، حيث يرون أن تلك وسيلة لضمان انتهاء الأمر برمته في صورة رابحة بما يجعل العميل يُبقي على التعامل معهم.
وبالتالي شهد سهم إنفيديا عند وصوله للقمة السعرية 927 دولارًا انخفاضاً بنسبة 6% يوم الثامن من مارس 2024، في ظل سعي كثيرين للتحوط من “انخفاض محتمل” ببيع بعض حيازاتهم (عادة ما ينصح المستشارون ببيع 20% من الحيازات الكبيرة و50% من الحيازات الصغيرة كنوع من التحوط) وانتهى السهم في منحنى هابط (على الأقل ليوم).
والشاهد أن هذا لم يكن السبب الوحيد، ولكن التقارير التي ساندت ارتفاع سهم شركة التكنولوجيا الأمريكية تحولت إلى التشكيك النسبي في استمرار هذا الارتفاع، فوكالة “سي إن إن” التي استطلعت آراء 54 محللًا وصلت إلى أن السهم سينخفض بنسبة 1% حتى نهاية العام المقبل بوصف ذلك السيناريو الأكثر ترجيحا.
ورجحت الشبكة الإخبارية الأمريكية، لدى رسمها أكثر السيناريوهات تفاؤلا، ارتفاع السهم حتى 1400 دولار كحد أقصى بعد عام، بنسبة ارتفاع 60%، بينما توقعت لدى رسمها أشد السيناريوهات تشاؤما انخفاضه بنسبة 33% ليصل إلى مستوى 582 دولارًا في السهم.
ويضع هذا منحنى سعريا واسعا للغاية لسهم الشركة للتحرك فيه، ولهذا فإن تحركات بعض المضاربين بالأخص للتحوط بالبيع تتسبب في المنحنى المرتد في السوق، وتتسبب في هبوطه، ويعد “وارين بافيت” أن هذا الشكل من التحوط هو “تحسب للجهل”، أي أن المستثمر يكتفي بما حقق من أرباح دون شواهد حقيقية حول إمكانية استمرار الأرباح أم لا بسبب أنه ليس لديه القدرة على توقع اتجاهات سعر السهم بصورة صحيحة.
ومثال سهم “إنفيديا” وتقلباته خلال الفترة الماضية توضح باستمرار أسباب حدوث التيار الارتدادي بمفهومه “السعري” وإن كان يحصل لأسباب نفسية.
أما عن التأثير النفسي المباشر فتشير الدراسات إلى أن 70% من البشر يصعب عليهم تغيير انطباعاتهم الأولى، وبالتالي فإن حصول شخص على “نصيحة” أو تحليل من محلل مالي أو سمسار بورصة أو حتى صديق، ليتبين خطأ هذا التحليل أو النصيحة فإنه سيرفض النصيحة التالية وربما يعمل ضدها.
وفي دراسة أجراها “جاك بريهام”، أستاذ علم النفس السلوكي، على عدد كبير من طلابه في ستينيات القرن الماضي، وجد أن كثيرين يغيرون ردود أفعالهم “بشكل كبير” إذا شعروا بأن حريتهم مهددة، حيث إن كثيرين غيروا آراءهم في أوراق بحثية عندما شعروا بقيود بعد أن أخبرهم “بريهام” بأن آراءهم سيتم اتخاذها في الحسبان عند اتخاذ قرار في المسائل التي يكتبون عنها.
وعندما ألزم “بريهام” طلابه بكتابة رأي معين، تراجعت نسبة من مؤيدي هذا الرأي عن تأييده بسبب شعورهم بأن هذا إلزام عليهم، وأشار “بريهام” إلى أن هذا بسبب ميل الإنسان الفطري للتخلص من القيود المفروضة عليه ولو كان ذلك على حساب التفكير بمنطقية أو على حساب آرائه وقناعاته السابقة.
ويصل البعض إلى حد العمل ضد هذه النصيحة تماما، فإن أخبره شخص خابت نصيحته سابقًا بأن السهم “أ” يشكل فرصة شراء في الوقت الحالي لتوقعه ارتفاع سعره مستقبلًا، فإنه قد يعمد إلى بيع حيازته من السهم “أ”، وهو ما يحدث لكثير من المتداولين لا سيما حال تكرار النصائح الخاطئة.
ولعل هذه الظاهرة هي عكس ظاهرة “مستثمري الظل” الذين يختارون مستثمرًا ناجحًا ليسيروا خلفه، فهنا يختار المتداول العمل عكس اتجاه النصح.
وفي هذا الإطار يمكن لفت الانتباه إلى تزايد هذه الظاهرة بشدة مع الكثير من “المؤثرين” على صفحات التواصل الاجتماعي في الولايات المتحدة، حيث يتابعهم البعض فقط ليعرفوا كيف سيتصرف بعض متابعيهم “الكثر” ليضع ذلك في حسبانه عند البيع والشراء وليس لتصديق ما يقولون.
ويتفق ذلك على أن نسبة تصل إلى 40% من صغار المتداولين في السوق الأميركي يفضلون النصائح “مدفوعة الأجر” على تلك المجانية، حيث يمكن الحصول على الأولى من بعض المواقع المتخصصة أو من السماسرة والثانية من بعض المواقع المفتوحة بدون تسجيل وبعض مؤثري وسائل التواصل الاجتماعي، والنقطة المفصلية هنا، هي تجارب إيجابية مع المدفوع، وسلبية مع المجاني.
ويمكن القول إن أبرز سببين يحدثان التأثير الارتدادي في سوق الأسهم هما:
1- تخفيض المحللين لتصنيفات الأسهم: عندما يقوم محلل ذو سمعة طيبة أو عدد من المحللين بتخفيض تصنيف السهم، يمكن أن يؤدي ذلك إلى عمليات بيع واسعة النطاق من قبل المستثمرين الذين يتابعون تقييمات المحللين بشكل أعمى.
ومع ذلك، قد يرى بعض المستثمرين في هذا رد فعل مبالغا فيه وفرصة للشراء، خاصة إذا ظلت أساسيات الشركة قوية، ويمكن القول إن هناك من حققوا ثروات بسبب هذا الأمر، وهو السير عكس اتجاه السوق تمامًا في لحظات الاضطراب وأبرزهم “جيسي ليفرمور” ، ولكن اختيار هذه الاستراتيجية يبقى محفوفًا بالمخاطر لأنه رهان على ارتداد سريع وليس استثمارا طويل المدى.
2- انخفاض أسعار الأسهم: إذا انخفض سعر السهم بسبب الأخبار السلبية أو الذعر في السوق، فقد يقرر بعض المستثمرين الشراء على الرغم من عدم اليقين.
ويمكن أن يكون سلوك الشراء هذا مدفوعًا بالرغبة في إثبات خطأ السوق، أو ببساطة عن طريق الاعتقاد بأن السعر قد انخفض كثيرًا وأصبح السهم “صفقة جيدة”، ويمكن أن يساعد هذا التحدي ضد الاتجاه الهبوطي في استقرار سعر السهم أو حتى يؤدي إلى الارتداد.
والشاهد أن هذا يتفق مع أن أكثر من 35% من المتداولين في سوق الأسهم يتخذون من منهج “اللااستراتيجية” طريقًا لهم في الأسواق، حيث يناقضون كافة الآراء القائمة –بلا علم أو دراسة منفصلة- ويسعون للعمل “بحرية كاملة” بعيدا عن توجيهات المحللين والخبراء والناصحين.
وبشكل عام يمكن القول إن لتأثير”البوميرانغ” أثراً سلبياً على “رجاحة عقل” المتداول، حيث قد يدفعه لشكل من أشكال الرفض والعناد، بما قد يؤثر على استثماراته سلبًا، لذا عليه دومًا أن ينتبه “لما يُقال” بغض النظر عن قائله، فالكلام هو ما يتم فحصه وليس المتحدث.