بول كروجمان: العقل الاقتصادي الذي تجاوز التنظير واشتبك مع الواقع

في زمن يتوارى فيه كثير من العلماء خلف جدران الجامعات، يظهر بول كروجمان كاستثناء نادر لقاعدة الصمت الأكاديمي. فهو ليس فقط الاقتصادي الذي أثار ضجة في أروقة الفكر بنظرياته التجديدية، بل هو أيضًا المثقف الذي خاض غمار السياسة والاقتصاد العام من موقع المثابر، لا المتفرج.
ما يميز كروجمان ليس فقط نيله جائزة نوبل، بل قدرته على تحويل أصعب الأفكار الاقتصادية إلى أدوات للفهم والتغيير. إذ جمع بين حدة الذهن وجرأة الكلمة، وبين الحضور في المؤتمرات العلمية والكتابة الأسبوعية لعامة الناس، دون أن يفقد بوصلته الفكرية.
منذ بداياته، أظهر كروجمان ميلًا لتجاوز التقاليد الاقتصادية الجامدة. ففي عام 1979، كتب ورقة بحثية غيّرت بشكل جذري نظرة العالم إلى التجارة الدولية، لتصبح لاحقًا حجر الزاوية في ما يُعرف بـ”نظرية التجارة الجديدة”.
نظريته طرحت سؤالًا مربكًا: لماذا تتبادل الدول المتقدمة منتجات متشابهة؟ لماذا تصدر ألمانيا سيارات وتستوردها من أمريكا؟
جاء الجواب عبر ركيزتين:
تنوع أذواق المستهلكين: الأفراد لا يكتفون بمنتج واحد حتى لو كان جيدًا، بل يبحثون عن التعددية والتميّز.
وفورات الحجم: الإنتاج الضخم يُقلل التكاليف، ما يدفع الشركات للتوسع خارج حدود الطلب المحلي.
بهذه النظرة، حوّل كروجمان مفهوم التجارة من منافسة على الموارد إلى تعاون يعود بالنفع على جميع الأطراف.
لم يقف عند التجارة، بل توسع ليُطلق مفهوم “الجغرافيا الاقتصادية الجديدة”، الذي يشرح لماذا تتركز الأنشطة الاقتصادية في مناطق محددة.
قدّم تفسيرًا منطقيًا لتفوق مناطق مثل وادي السيليكون، حيث تتركز المهارات والبنية التحتية والشبكات، ما يجعل النجاح في هذه البؤر يتغذى على نفسه.
لم تُقيد كروجمان أوسمة البحث العلمي، بل دفعته إلى الانخراط أكثر في النقاش العام. فابتداءً من الألفية الجديدة، تحول إلى أحد أبرز الكتّاب في نيويورك تايمز، عبر عموده الشهير “الضمير الليبرالي”.
بأسلوبه السلس ونقده اللاذع، فتح نوافذ الاقتصاد أمام جمهور واسع، موجهًا سهامه إلى السياسات الاقتصادية المحافظة ومروّجي التقشف.
رغم الانتقادات التي وُجهت له بتسييس تحليلاته، لم يتراجع عن إيمانه بأن للاقتصادي دورًا أخلاقيًا لا يكتمل إلا بالانحياز إلى الحقيقة والمصلحة العامة.
و مع الأزمة المالية العالمية عام 2008، عاد كروجمان إلى فكر جون ماينارد كينز، مُذكّرًا العالم بأن الدولة لا يجب أن تقف متفرجة في أوقات الانكماش.
دعا إلى سياسات مالية توسعية، محذرًا من الاعتماد المفرط على البنوك المركزية وحدها، ومذكّرًا بتجربة “العقد الضائع” في اليابان.
قالها بوضوح:
“العالم بحاجة إلى إنفاق حكومي جريء لتحفيز الاقتصاد، وليس فقط تلاعبًا بأسعار الفائدة.”
شغل كروجمان مناصب تدريسية في جامعات النخبة مثل ييل، ستانفورد، برينستون، وكلية لندن للاقتصاد، قبل أن يحط في جامعة مدينة نيويورك.
لكن تجربته لم تقتصر على التعليم، فقد عمل مستشارًا للرئيس رونالد ريغان، وتعاون مع مؤسسات كبرى مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
بهذا التنقل بين التنظير والتطبيق، بين الفصول الدراسية وأروقة الحكم، جسّد كروجمان نموذج الاقتصادي الشامل.
في المحصلة، لا يمكن اختزال بول كروجمان في جائزة نوبل أو مقالاته السياسية. إنه مدرسة فكرية قائمة بذاتها، أعادت تعريف دور الاقتصادي في العصر الحديث.
هو من وسّع آفاق النظرية، واقترب من هموم الناس، وواجه السياسات النيوليبرالية بجرأة الباحث والمسؤولية الأخلاقية.
كروجمان هو الاقتصادي الذي لم يكتفِ بفهم العالم، بل سعى لتغييره — بالأرقام، بالكلمات، وبالإصرار على أن العلم يجب أن يكون في خدمة المجتمع لا معزولًا عنه.