مفتشية المالية تفضح هشاشة منظومة الضمانات البنكية في تدبير الصفقات العمومية

في خطوة تعكس تصاعد التوتر في تدبير الصفقات العمومية، باشرت المفتشية العامة للمالية تحقيقاً دقيقاً في سلسلة من المشاريع المتعثرة بعد تسجيل سحب مفاجئ للضمانات البنكية من طرف مؤسسات مالية كانت قد التزمت بها لصالح مقاولات فازت بصفقات أشغال كبرى.
هذا الانسحاب غير المتوقع من قبل بعض البنوك أدى إلى شلل مشاريع بملايين الدراهم، وأشعل فتيل خلافات حادة بين المقاولات المتضررة والإدارات العمومية الرافضة لتعويض تلك الضمانات بأخرى جديدة.
وبحسب المعطيات المتوفرة، فإن تدخل مفتشي وزارة المالية جاء عقب تزايد قرارات الرفض الصادرة عن الآمرين بالصرف في إدارات ومؤسسات عمومية متعددة، إزاء طلبات المقاولات المتضررة لتعويض الضمانات البنكية المسحوبة بضمانات صادرة عن بنوك أخرى.
وقد كشفت مراجعة هذه الملفات تمسك الإدارات بموقف صارم، مستند إلى مقتضيات المادة 15 من دفتر الشروط الإدارية العامة، الذي لا يجيز قانوناً أي تعديل على الضمانات بعد انقضاء الآجال المحددة.
في محاضر رسمية، شددت الجهات الإدارية المعنية على أن الضمان النهائي ينبغي أن يُودع داخل أجل لا يتجاوز عشرين يوماً من تاريخ المصادقة على الصفقة، ويستمر سريانه إلى حين القبول النهائي للأشغال.
ورفضت الإدارات أي ضمان بديل ما لم يتم تقديمه ضمن الآجال القانونية وبالإشارة إلى الضمان الأصلي، تحت طائلة مصادرة الحقوق.
التقارير الأولية الصادرة عن المفتشية سجلت وجود ثغرات في تفسير بعض الإدارات للمقتضيات القانونية، وفي المقابل، حملت بعض البنوك مسؤولية تجاوزات محتملة لسحبها ضمانات نهائية دون الحصول على شهادة “رفع اليد” من الجهات صاحبة المشروع، وهو ما يخالف المساطر القانونية المعمول بها.
ودعت المفتشية إلى ضرورة تقييد البنوك بإطار تعاقدي واضح يحول دون تكرار هذه التجاوزات التي تعرقل إنجاز المشاريع العمومية.
تشير التحقيقات إلى أن عدداً من المقاولات دخلت في نزاعات قضائية مع إدارات عمومية بسبب تجميد الضمانات أو رفض صرف مستحقات، رغم تعثر الأشغال أو تأخر التسلم النهائي.
وتبرر الإدارات هذا الإجراء بكونه وسيلة لضمان احترام شروط العقد وحماية المال العام، بينما ترى المقاولات المتضررة أنه تعسف غير مبرر يزيد من هشاشة بيئة الأعمال.
في قلب هذا الجدل، تبرز الفقرة الثانية من المادة 75 من مرسوم دفتر الشروط الإدارية العامة، والتي تمنح لصاحب المشروع صلاحية توجيه لوائح بالعيوب خلال مدة الضمان، باستثناء تلك الناتجة عن الاستعمال العادي أو الأضرار الناتجة عن الغير.
ويرى بعض الفاعلين أن هذه المادة تُستعمل بصيغة فضفاضة لتبرير استمرار حجز الضمانات، حتى في غياب اختلالات تقنية مثبتة، ما يزيد من تعقيد النزاعات القانونية والمالية.
تكشف هذه الأزمة عن هشاشة التوازن القائم بين الالتزامات البنكية، مقتضيات القانون الإداري، ومصالح المقاولات، في سياق يزداد فيه الضغط من أجل ضمان نجاعة الاستثمار العمومي.
وبين الحاجة لحماية المال العام وضرورة احترام حقوق المقاولات، تبرز الحاجة الملحة لإصلاح شامل يوضح الإطار القانوني للضمانات البنكية في الصفقات، ويضمن استمرارية المشاريع بثقة وشفافية.