الذهب في قلب العاصفة الاقتصادية..صعود مستمر في زمن الشكوك

في وقت تتعثر فيه الأصول التقليدية تحت وطأة الضبابية، يواصل الذهب تحليقه، متجاهلًا كل العوائق وكأنه في عالم موازٍ. ومع استمرار تراجع الدولار الأميركي، يحقق المعدن الأصفر مستويات غير مسبوقة، مثبتًا مكانته كأصل استثنائي في مشهد اقتصادي مضطرب.
فرغم محاولات الأسواق التصحيحية، لا شيء يوقف زحف الذهب الصاعد. وبينما تتراجع أسواق الأسهم وتفقد العملات بريقها، يواصل الذهب صعوده بثقة، مبتعدًا عن جاذبية الأصول التقليدية، وسط أجواء مشبعة بالتوترات الجيوسياسية، ومخاوف التباطؤ الاقتصادي، وتفاقم النزاعات التجارية.
في ظل هذه الظروف، يستعيد الذهب دوره التاريخي، ليس فقط كملاذ آمن، بل كـ”عملة صامتة” لا يصدرها بنك مركزي ولا تضعفها تقلبات السياسة، مما يجعله في طليعة خيارات المستثمرين الباحثين عن الثبات في عالم متقلب.
قفزت أسعار الذهب بأكثر من 2% لتلامس حاجز 3500 دولار للأونصة، مدفوعة بانخفاض الدولار إلى أدنى مستوياته منذ نهاية 2023.
وازداد الزخم مع تصاعد التوترات حول استقلالية الاحتياطي الفيدرالي، على خلفية انتقادات الرئيس الأميركي دونالد ترامب لرئيسه جيروم باول، وتهديده بإقالته.
هذه التصريحات أحدثت زعزعة في ثقة المستثمرين، ودفعهم نحو الملاذات الأكثر استقرارًا، وعلى رأسها الذهب. وزاد من حدة القلق تحذيرات مسؤولي الفيدرالي من مخاطر التدخل السياسي، مما زاد من جاذبية المعدن الأصفر.
ويتوقع محللون استمرار ارتفاع الذهب، خاصة مع توقعات صندوق النقد الدولي بانخفاض النمو العالمي، واحتمالات الركود، في وقت تُشير فيه مؤشرات مديري المشتريات القادمة إلى نظرة قاتمة للنشاط الاقتصادي، مع تصاعد التوترات التجارية.
واحدة من أبرز محركات صعود الذهب هي موجة الشراء الكثيف من قبل صناديق المؤشرات المدعومة بالذهب، والتي سجلت 12 أسبوعًا من المكاسب المتتالية، وهي أطول سلسلة منذ عام 2022.
إلى جانب ذلك، واصلت البنوك المركزية — خصوصًا في آسيا والشرق الأوسط — شراء الذهب بكثافة، كجزء من إعادة هيكلة احتياطاتها بعيدًا عن الدولار.
خلال عام 2023، سجلت البنوك المركزية رقمًا قياسيًا بشراء أكثر من 1037 طنًا من الذهب، وهو اتجاه استمر بوتيرة متسارعة خلال الربع الأول من 2025، مع توقعات بوصول متوسط المشتريات إلى 80 طنًا شهريًا.
البنوك المركزية التي لديها أعلى احتياطات من الذهب عالميًا (حتى نهاية عام 2024) |
||
الترتيب |
الدولة |
حجم الاحتياطي |
1 |
الولايات المتحدة |
8133 |
2 |
ألمانيا |
3352 |
3 |
إيطاليا |
2452 |
4 |
فرنسا |
2437 |
5 |
روسيا |
2336 |
6 |
الصين |
2280 |
7 |
سويسرا |
1040 |
وباتت احتياطيات الذهب العالمية لدى البنوك المركزية تقترب من 37.8 ألف طن، ما يعادل نحو خمس إجمالي الذهب المُستخرج عبر التاريخ.
حتى عندما شهد الذهب بعض التراجعات الطفيفة في شهري فبراير ومارس، لم تكن إلا فترات تهدئة، تحوّلت سريعًا إلى فرص شراء مغرية. فالصورة الاستثمارية العالمية تغيّرت، والذهب لم يعد مقتصرًا على المستثمرين الأفراد، بل أصبح مكونًا أساسيًا في محافظ الصناديق السيادية، وشركات التأمين، وصناديق التقاعد.
وبحسب بيانات الربع الأول من 2025، فإن أكثر من 15% من زيادة الطلب على الذهب جاءت من مؤسسات مالية كبرى، مما يشير إلى تحوّل نوعي في نمط الطلب العالمي.
هذا التحول جعل البنوك الاستثمارية الكبرى أكثر تفاؤلًا، فقد توقّع بنك “جولدمان ساكس” أن يبلغ سعر الذهب 4000 دولار للأونصة بحلول منتصف 2026، مع إمكانية وصوله إلى 4500 دولار إذا تصاعدت التوترات الاقتصادية.
رغم ما يُقال عن المضاربات، إلا أن صعود الذهب يبدو هذه المرة محكومًا بمعطيات واقعية وطلب مؤسسي صلب. فلا المؤشرات الفنية تُظهر تشبّعًا شرائيًا، ولا السوق يتحرك وفق موجات قصيرة المدى.
بل إن ما نشهده هو تسعير تدريجي لمخاطر ممتدة: من ضعف الدولار، إلى سياسات نقدية مترنّحة، وصولًا إلى غياب الثقة في النظام النقدي العالمي.
الذهب، في هذا السياق، لم يعد مجرد ملاذ من التضخم أو تقلبات الفائدة. إنه بات أشبه بـ”لغة مالية بديلة” تتحدث بها الأسواق حين تفشل الأدوات التقليدية في التعبير.
بينما تواصل الاقتصادات الكبرى مراجعة أولوياتها وتعيش الأسواق حالة من الإرباك، يبقى الذهب هو الأصل الوحيد الذي يجمع عليه الجميع. مدعومًا بطلب حقيقي، ورؤية طويلة الأمد، واحتضان مؤسسي واسع.
قد يمر الذهب ببعض التباطؤ المؤقت، لكنه لا يتراجع فعليًا. بل يواصل ترسيخ مكانته كركيزة استراتيجية في المشهد المالي العالمي الجديد، كأنه يقول: في زمن اللايقين، ابحث عن الثابت… وستجده في الذهب.