الاقتصادية

لحظة مينسكي: هل بات انهيار سوق الأسهم أمرًا مستبعدًا؟

أكثر ما يخشاه المستثمرون هو تراجع قيمة الأصول التي يحوزنها أيًا كانت، عقارات أو أسهماً أو معادن ثمينة أو غير ذلك، وتزداد تلك المخاوف في حالة بدأت قيمة الأصول في التراجع بالفعل حيث يصبح المستثمر بين خيارين الأول هو البيع بخسارة والثاني هو الاحتفاظ بأصل تتراجع قيمته أملًا في تحسن سعره مستقبلًا.

والنقطة التي تتبدل فيها صعود الأصول إلى تراجع تعرف بـ”لحظة مينسكي” وهي مصطلح يشير إلى النقطة الحرجة في دورة الائتمان حيث يتحول الازدهار إلى كساد، وسميت هذه اللحظة على اسم الاقتصادي الأمريكي هيمان مينسكي الذي طور نظرية حول دورة الائتمان وانهيارها.

ويمكن القول إن للحظة مينسكي 5 مراحل:

الازدهار والائتمان: تبدأ الدورة بزيادة في الائتمان المصرفي والثقة في الاقتصاد، مما يؤدي إلى استثمارات كبيرة ونمو اقتصادي.

زيادة المخاطرة: مع استمرار الازدهار، يزداد المستثمرون طموحًا ويتحملون مخاطر أكبر، معتقدين أن الأصول ستستمر في الارتفاع.

فقاعة الأصول: تتشكل فقاعة في أسعار الأصول (مثل الأسهم والعقارات)، حيث ترتفع الأسعار بشكل سريع وغير مستدام.

لحظة الانفجار: في النهاية، تنفجر الفقاعة وتنهار الأسعار، مما يؤدي إلى خسائر كبيرة للمستثمرين وانهيار الثقة في الاقتصاد.

الكساد: يتبع انهيار الفقاعة فترة من الكساد الاقتصادي، حيث تنخفض الاستثمارات والإنفاق، وترتفع البطالة.

الأسهم أولا

ومن أكثر أشكال الأصول التي تتأثر بلحظة مينسكي هي الأسهم، فهي الأسرع استجابة لتقلبات السوق مقارنة بأصول أخرى كالعقارات والمعادن النفيسة.

فعلى سبيل المثال، ارتفع مؤشر “ناسداك” للشركات التكنولوجية الأمريكية ليبلغ مستوى 16 ألف نقطة في نوفمبر 2021 بفعل حالة الانجذاب الشديد التي عاشها الكثير من الهواة والتي أدت لانخراطهم في سوق الأسهم -الصاعد حينها- دون حسابات معقدة أكثر من السعي لتحقيق مكاسب “سهلة”.

52b18796 af66 4f64 a52d 309fb7a570a3 Detafour

ومع السوق التصحيحية للسوق الأمريكي خلال عام 2022 عاد المؤشر للتراجع ليبلغ أقل من 10.5 ألف نقطة بنهاية 2022، غير أن فورة الذكاء الاصطناعي عادت بالمؤشر ليرتفع مجددًا ليصل إلى أعلى مستوياته على الإطلاق في 12 يوليو 2024 بمستوى 18400 نقطة.

فما الفارق بين صعود “ناسداك” في الحالتين في 2021 و2024؟

الفارق الرئيسي هو في احتمالية تحقق “لحظة مينسكي” في الحالتين، ففي حالة المضاربات غير المنطقية احتاج الأمر إلى انخفاض تقارب نسبته 35% في السوق في تحقق واضح للحظة مينسكي فلا شك أن فقدان أصل (الأسهم) لثلث قيمتها يعد لحظة انفجار بشكل أو بآخر.

تجنب الانهيار التام لـ”ناسداك”

ولكن ما جنّب السوق مخاطر “السقوط الحر” في الأسعار، هو الرهان الجديد على الذكاء الاصطناعي وتقنياته، حيث تشير استطلاعات الرأي أن ما لا يقل عن 80-85% من المتداولين الصغار في السوق الأمريكية يعتقدون أن الذكاء الاصطناعي سيحقق وفورات اقتصادية مستقبلية كبيرة.

ولكن هل الواقع يدعم اعتقاداتهم؟ الحقيقة أن تقارير الذكاء الاصطناعي وآثاره الاقتصادية متضاربة للغاية، ففي الوقت الذي تحذر تقارير من أنه سيمحو 300 مليون وظيفة، تشير تقارير أخرى إلى أنه قد يضيف أكثر من هذا العدد خلال السنوات الخمس المقبلة.

وبينما تشير تقارير إلى أنه سيحقق وفورات اقتصادية مستقبلية كبيرة ما تزال تطبيقاته في مرحلة مبكرة تتكبد فيها الخسائر -وهو أمر منطقي لأنها في مراحلها الأولى- ويبقى الرهان على انقلاب الخسائر لأرباح من عدمه.

ولذلك ففي حال تكشّف صدق التوقعات التي تتنبأ باقتصاد مزدهر بفعل الذكاء الاصطناعي فإن لحظة مينسكي لن تتحقق وربما يستمر “ناسداك” في الارتفاع ليصل إلى مستويات قياسية غير مسبوقة تتخطي مستوياته في يوليو 2024.

أما إذا حدث وأصدر عدد من الشركات العملاقة والرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي مثل “أوبن إي آي” و”جوجل” و”ميتا” و”مايكروسوفت” وغيرهم بيانات سلبية متقاربة حول توقعات مستقبل الذكاء الاصطناعي فإن ذلك كفيل بتحقيق انفجار قوي للفقاعة ربما يتبعه كساد.

والدليل على ذلك هو تراجع “ناسداك” من مستوياته القياسية في منتصف 2024 وفقدانه لأكثر من 1500 نقطة بحلول أغسطس 2024 بسبب توقعات سلبية من شركتي “جوجل” و”ميتا” ليس للذكاء الاصطناعي بشكل عام ولكن لموعد حصد ثماره.

الرهانات الجماعية

ويشير الكاتب الاقتصادي الأمريكي “مايكل لويس” إلى أن لحظات الانهيار تأتي بسبب الرهان الجماعي على ارتفاع الأصول في مرحلة ما، مشيرًا إلى أنه قبل أزمة الرهن العقاري كان 97% من المستثمرين في القطاع يراهنون على ارتفاعه.

5a7b7733 0532 4905 bff7 1af1d11ca7cf Detafour

ويمكن أن ينطبق الأمر نفسه على سوق الأسهم التي يرى 88% من المستثمرين فيها في الوقت الحالي -في السوق الأمريكي- إلى أنها في سبيلها إلى الارتفاع، وبلغت تلك النسبة أكثر من 95% إبان أزمة كورونا، فكل هذه الأجواء تمهد الأمر للحظة مينسكي.

وعلى الرغم من هذا فيكمن القول إن هناك العديد من العوامل التي تقلل احتمالية حدوث انهيارات عنيفة جديدة مثل أزمة الرهن العقاري، وما شهدته من “لحظة مينسكي”، وأبرزها الجرأة الحكومية الأكبر في التدخل في أسواق الأسهم بعد الكُلفة الكبيرة التي تحملها الاقتصاد الأمريكي .

فمنذ 2008 شهدت السوق الأمريكي تضاعفت عمليات التدخل من قبل الهيئات الحكومية الأمريكية المعنية، سواء ببعض الإجراءات التنظيمية الخاصة بوقف بيع بعض الأسهم أو إلغاء بعض عمليات البيع، أو حتى بتتبع بعض عمليات البيع وإلغائها بعد إتمامها.

الذكاء الاصطناعي ولحظة مينسكي

كما أن هناك تراجعًا نسبيًا في حجم الحيازات الشخصية المباشرة لصالح الحيازات عبر الشركات وعبر صناديق الأسهم، فضلًا عن مشتريات الشركات المباشرة، بما يجعل الانهيار الكامل أكثر صعوبة في ظل سياسات بيع وشراء أكثر استقرارًا.

ويجب الإشارة أيضا إلى أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي أصبحت أكثر توغلًا في عالم الأسهم، حيث كشفت دراسة أن تطبيق غير متخصص اقتصاديا مثل “شات جي بي تي” تمكن من التفوق على 95% من المتداولين الفرديين.

وترتفع النسبة بالنسبة للتطبيقات المتخصصة والتي تحوزها شركات إدارة الأصول، ولكنها بالنهاية تعمل بشكل جمعي على فرض حالة أكبر من الاستقرار في سوق الأسهم، وفي مختلف أسواق الأصول بما يقلل من احتمال ظهور “لحظة مينسكي” مجددا.

وعلى الرغم من هذا يحذر كثيرون من أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي تلك توفر استقرارًا ما بقيت السوق بدون تقلبات كبيرة ولكن تلك التطبيقات تنقسم بين تلك التي تعتمد على آلة تعليم خاصة، وتلك يمكن النظر إليها كعامل استقرار، وبين تلك التي تعتمد على المصادر المفتوحة وهذه لا يمكن النظر إليها كحائل دون حدوث لحظة مينسكي جديدة.

جدير بالذكر أن 73% من المستثمرين في الأسواق حول العالم يرون الذكاء الاصطناعي عنصر عدم استقرار وعامل تهديد لاستثماراتهم، سواء أدارها أو بسبب التأثير غير المباشر، وبالتالي يصعب الجزم بتأثيره لتحقيق الاستقرار ولكن يبدو أنه داعم للاستقرار حاليًا من خلال مساهماته في المؤسسات المالية العملاقة.

5441da32 7da0 49bf ad71 c3ce100b0875 Detafour

والشاهد أيضا أن “لحظة مينسكي” أصبحت أقل تكرارًا مع الزمن، فأسواق الأسهم شهدت تراجعًا واضحًا في عدد الانهيارات ما قبل الكساد الكبير (1929-1933) مقارنة بما بعده، وتحسنت الأمور كذلك منذ الاثنين الأسود، ويمكن القول إن الخبرة التراكمية تفيد في هذا الشأن.

وعلى الجانب الآخر تبقى انقلابات السوق ممكنة، فمن أصل أكثر من 50 انهيارا كبيرًا لأسواق الأسهم عبر التاريخ  فإن هناك 14 انهيارا كانوا بلا سبب واضح باستثناء عنصري الجشع والخوف، أما البقية كلها بلا سبب مشترك واضح ومباشر، وإن كانت هناك تشابهات بالطبع، وأبرزها تضخم الأصول.

لذا يصعب الجزم عما إذا كان الوقت قد تجاوز “لحظة مينسكي” ولكن المؤكد أنها أصبحت أكثر صعوبة، ومع ازدياد صعوبتها وتباعد الوقت بين انهيار أسهم وآخر، فإنه من المتوقع أن يكون الانهيار أشد حال حدوثه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى