النظرية مقابل الواقع: لماذا تفشل النماذج في تفسير سلوك الأسواق؟
ظهرت العديد من النظريات التي تسعى لفهم آلية عمل أسواق الأسهم، حيث اعتبرت بعض هذه النظريات أن السوق تعمل بشكل رشيد تمامًا، مع توفر المعلومات الكافية التي تنعكس على أسعار الأسهم، في حين رأت بعض النظريات الأخرى أن السوق هي بمثابة فوضى يصعب التنبؤ بها.
ومع تقدم الأبحاث، بدأ يتضح أن الأسواق ليست رشيدة بالكامل ولا فوضوية تمامًا، بل هي أسواق تتمتع بدرجات مختلفة من “عدم الرشادة” التي تتفاوت من سوق لآخر ومن وقت لآخر.
و تتعدد العوامل التي تحدد ما إذا كانت السوق “رشيدة” أم لا. أول هذه العوامل هو مدى توفر المعلومات، إذ إن المعلومات المتاحة للجميع والمعلومات الخاصة بقلة من المتعاملين لها تأثير كبير على توازن السوق.
أيضًا، تختلف درجة فهم المتعاملين للمعلومات ومدى تأثير الأطراف الخارجية مثل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والمشرعين في تشكيل سلوك السوق.
من الأسئلة الجوهرية في هذا السياق: هل المعلومات متاحة للجميع؟ تشير الدراسات إلى أن كبار المتعاملين في الأسواق الأمريكية يتفوقون على السوق ويحققون أرباحًا تتراوح بين 4-6% سنويًا، ليس فقط بسبب قدراتهم الفائقة، بل لأنهم يمتلكون “معلومات حصرية” يحصلون عليها عبر مصادر اقتصادية خاصة أو من لقاءات سرية مع المسؤولين.
وبالتالي، إذا كان البعض يحقق هذه الأرباح المبالغ فيها، فهذا يدل على أن السوق ليست رشيدة بالكامل. وقد أظهرت الدراسات أن حوالي 40% من المتعاملين في السوق الأمريكية لا يمتلكون المعرفة الأساسية المطلوبة للاستثمار الناجح، سواء في التحليل الفني أو التحليل الأساسي.
تعتبر الأخبار العاجلة وأحداث اللحظة من العوامل الرئيسية التي تساهم في عدم رشادة السوق. على سبيل المثال، عندما يسأل المتعاملون عن سبب ارتفاع سعر سهم معين في السنة الماضية، نجد أن الغالبية يربطون هذا الارتفاع بعوامل قصيرة المدى مثل تعيين رئيس مجلس إدارة جديد أو تحقيق نتائج فصلية تفوق التوقعات، متجاهلين الجوانب الجوهرية مثل الوضع المالي والتنافسي للشركة.
هذه التوجهات تساهم في التذبذبات الكبيرة للأسعار، مما يعكس تفضيلًا للأحداث العاجلة على الحقائق الجوهرية.
وفي هذا السياق، يشير وارن بافيت إلى أن العديد من الأشخاص لا ينبغي لهم المشاركة في سوق الأسهم بسبب طبيعتهم النفسية. ويؤكد على أهمية أن يكون المتعامل مستعدًا نفسيًا لتحمل خسائر قد تصل إلى 50% في سهمه إذا كان مقتنعًا بأسباب شرائه له.
يتضح هذا من خلال تصرفات بافيت نفسه، حيث يختار الحفاظ على الأسهم لفترات طويلة حتى في ظل ارتفاعاتها الكبيرة، مثلما فعل مع أسهم “أبل” التي باعها رغم تحقيقها لزيادة بنسبة 25% في العام الماضي.
من أبرز أسباب عدم رشادة الأسواق المالية هو الطمع، حيث يعتقد الكثيرون أنهم قادرون على تحقيق ثروات ضخمة بسرعة، وهو ما يؤدي إلى ظهور فقاعة سوقية يتم بعدها انهيار سريع وكبير للأسعار.
وقد أشار الاقتصادي “أنتوني جاليا” إلى أن الأسواق شهدت العديد من الأزمات نتيجة هذا النوع من السلوك، حيث أن 98% من المتعاملين في السوق لا يحققون أرباحًا، خاصة في فترات الأزمات الكبرى مثل الكساد العظيم أو الأزمة المالية العالمية.
نظرية عدم رشادة الأسواق تتجنب اعتبار السوق فوضوية بشكل مطلق، وفي نفس الوقت لا تصنفها على أنها رشيدة بالكامل. فهي تقدم تفسيرًا أكثر دقة لكيفية عمل الأسواق، مع الاعتراف بأن هناك العديد من العوامل التي تؤثر على سلوكها وتؤدي إلى تذبذب الأسعار بشكل غير مبرر.
وعلى المتعاملين في السوق أن يتجنبوا الاعتقاد أن السوق خالية من العيوب أو بدون ضوابط، بل يجب عليهم دراسة السوق بشكل أعمق وتحليل الظروف بدقة لضمان اتخاذ قرارات استثمارية صائبة.