التشاؤم في سوق الأسهم سلاح ذو حدين .. كيف تتعامل معه مثل وارين بافيت؟
“عندما تستثمر، فإن التشاؤم صديقك، بينما “النشوة” هي عدوتك” هذه هي إحدى أشهر المقولات لأحد أباطرة الاستثمار في سوق الأسهم “وارين” بافيت، ولكنه لا يقصد التشاؤم هنا بمعناه الدارج، ولكن يقصد التحوط.
فالتشاؤم بمعناه العام يؤذي المستثمر في سوق الأسهم بشدة، فيمنعه من المخاطرة المعقولة التي تؤدي لنتائج جيدة ومكاسب كبيرة، وقد يدفعه لبيع الأسهم في وقت غير مناسب، وربما يلحقه بجموع المصابين بالهلع والخوف في الأزمات، فضلًا عن معاناته من صعوبة اتخاذ القرارات الاستثمارية بما يؤدي لتفويت فرص جيدة.
تشاؤم وارين بافيت مختلف
ومن أهم الأشياء التي يسببها التشاؤم هو تجنب المخاطرة (المعقولة بالطبع)، حيث قد يدفع التشاؤم المتداول إلى تجنب الاستثمارات ذات العائد المرتفع خوفًا من الخسارة، مما يحد من فرص تحقيق أرباح كبيرة على المدى الطويل.
ووصل الأمر إلى حد اتهام المستثمر الأشهر “وارين بافيت” بالتشاؤم المفرط، في ظل ارتفاع مخزون الكاش لديه من قرابة 80 مليار دولار في عام 2018 إلى قرابة ضعف هذا المبلغ في عام 2022، قبل ارتفاعه مؤخرا ومع مبيعات أسهم “أبل” وأسهم أخرى إلى 277 مليار دولار.
فالسبب الرئيس الذي يدفع مستثمرا بهذه الشهرة والخبرة الكبيرة إلى الاحتفاظ بهذه الكمية من الكاش لديه هو توقعه لتراجع كبير في السوق، لا يكتفي فقط فيه بشراء ما يعرف بالأسهم الدفاعية ولكن يتخلص من الأسهم كلية لصالح الاحتفاظ بكمية كبيرة من السيولة النقدية.
وخلال اجتماع في منتصف عام 2020 في ذروة انتشار فيروس “كورونا” بدا أن ما عُرف عن “بافيت” من قدر كبير من الثقة والتفاؤل لم يكن موجودًا، في ظل تركيزه على استعراض أسواق الأسهم في الفترة بين 1929 -بداية الكساد الكبير- وعام 1951، مشيرًا إلى أن الاقتصاد والأسواق احتاجت 22 عامًا والتحفيز الاقتصادي الذي وفرته الحرب العالمية الثانية لكي تعود إلى مستوياتها قبل الكساد.
وبدا أن “بافيت” يحذر المستثمرين لديه من أن المستقبل قد لا يكون ورديًا كما يميل كثيرون، وقال جملة “بوسعك الرهان على المستقبل دومًا بأنه سيكون أفضل، ولكن عليك التحرك وتغيير مراكزك باستمرار لكي تبقى على الجانب الجيد من التاريخ”.
ووقتها رفض “بافيت” الدخول في السوق الذي انخفض بشدة بسبب فيروس كورونا (في الأشهر الأولى فحسب) وقال: “إننا لم نجد شيئًا براقًا بهذا الشكل بحيث يدفعنا للانخراط في السوق، كما أن ما لدينا من سيولة نقدية هي حوالي 137 مليار دولار فحسب وعلينا الحفاظ عليها تحسبًا لأيام أسوأ”.
تشاؤم مفرط؟
وبعد 4 أعوام على قرارات “بافيت” الاستثمارية قد يرى البعض أنه كان متشائما أكثر مما ينبغي، فمؤشر مثل “ستاندر أند بورز 500” ارتفع بنسبة تفوق 140% منذ قاعه في مارس 2020 حتى قمته في يوليو 2024 وبلغت تلك النسبة في “ناسداك” إلى أكثر من 180%.
فهل كان “بافيت” متشائمًا بالفعل وأضاع فرصًا استثمارية بعدم استخدام ما لديه من سيولة مالية “كاش” بل وزيادة تلك السيولة على مدى السنوات القليلة الماضية؟
الشاهد أن “بافيت” عادة ما يوصف بأنه “واقعي” لا “متشائم” ولا “متفائل” وإن كانت أغلب مواقفه تعبر عن أنه قد يكون أقرب للتفاؤل من التشاؤم، ولكن محاذير انتشار فيروس مجهول، ثم محاذير رفع الفائدة الأمريكية باستمرار ومخاطر الركود التي تلوح بالأفق دومًا أمر يستحق التحسب بكل تأكيد.
ولذلك وبعد ما عُرف إعلاميًا باسم “الاثنين الأسود” -الثاني لأن الأول كان عام 1987-يوم 5 أغسطس، بدأ كثيرون يفهمون تخوفات “بافيت، في ظل تراجع وصل إلى أكثر من 8% لبعض مؤشرات الأسهم الأمريكية في يوم واحد.
وعلى الرغم من الارتداد النسبي في المؤشرات في الأيام اللاحقة فإن هذا اليوم أعطى إشارة لما يمكن أن يحدثه مزيج من أزمة اقتصادية -مثل ما حدث في اليابان- مع تكشف ولو نسبيا لما أصبح كثيرون يراه بمثابة فقاعة أسهم الذكاء الاصطناعي.
وفي حالة أثر التشاؤم على المتداول لن ترى شركات مثل “كونوكو فيليبس” أو “ديكستشرشوز” أو “يو إس إيرز” التي استثمر فيها “بافيت” وخسر فيها أموالًا طائلة، في ظل اعتقاده بأن تلك الشركات “واعدة” ولديها القدرة على ملء فجوة في السوق.
ولكن سترى شركة مثل الشركة الأم لـ”جوجل” التي اعترف “بافيت” أن عدم شراء أسهم بها كان أحد أهم الأخطاء التي ارتكبها في مسيرته الطويلة، فالتشاؤم عادة ما يتعلق بـ”فوات الفرص” وليس باكتشاف أن بعض الفرص هي في واقع الأمر “فخاخ” أو سراب.
بيع الهلع
ومن بين أهم الآثار السلبية للتشاؤم على المتداول بيع الأسهم في وقت غير مناسب، حيث قد يؤدي هبوط السوق بشكل مؤقت إلى زيادة الشعور بالتشاؤم لدى المتداول، مما يدفعه إلى بيع أصوله بأسعار منخفضة، وبالتالي تحقيق خسائر فادحة.
وفي هذا يشير “بافيت” في حديث تلفزيوني إلى أنه تجنب منذ اشترى أول أسهمه في عام 1942 الانخراط في بيع الهلع بأي شكل من الأشكال، وعادة ما يرجع لأساسيات الشركات التي يمتلكها فقط للتأكد من استمرار سلامة تحليلاته السابقة وانطباقها على الوضع الحالي ثم يتركها لحالها إن كانت سليمة.
ويشير “بافيت” إلى أنه حتى مع الأزمة المالية العالمية كتب مقالًا في أكتوبر عام 2008 مطالبًا بعدم بيع الأسهم بل طلب شراءها لأنه بينما كان “العالم ينهار” كانت لديه الثقة من أن هذا الوضع مؤقت ولن يستغرق أكثر من عامين إلى ثلاثة قبل أن تعود الأسواق للانتعاش.
والشاهد أن هذا لم يكن موقف بافيت نفسه عندما قرر بيع حيازاته من أسهم شركات الطيران بالكامل مع بداية أزمة “كورونا” وقال: “ليس لدينا تأكيد من أن الناس سيكون بوسعها التحليق مجددًا بنفس الطريقة، كما أن موجات ثانية من الفيروس قد تنتشر”، واعتبر بعدها أن الاستثمار في شركات الطيران كما لو كان “استثمارا في تدمير أعصاب المتداول”.
انتشار التشاؤم
المشكلة الرئيسية للتشاؤم في الأسواق أنه “مُعدٍ، فمثلًا شهد عام 1981 واحدة من أعنف الأزمات التي ضربت الأسواق المالية في العصر الحديث. فمع سعي الاحتياطي الفيدرالي لمكافحة التضخم الجامح من خلال رفع أسعار الفائدة إلى مستويات قياسية تجاوزت 19%، غلب على الأجواء تشاؤم حاد. ووصفت وسائل الإعلام الأمريكية آنذاك هذه الفترة بـ”موت سوق الأسهم”، معلنةً نهاية حتمية لدورة صعود طويلة.
بدأت تدخلات الاحتياطي الفيدرالي في الأسواق المالية منذ عام 1979، مما أثار موجة من التشاؤم والقلق بين المستثمرين. تساءلت الصحف الأمريكية وقتها عما إذا كان سوق الأسهم سيستعيد عافيته من جديد أم أنه دخل في غيبوبة طويلة الأمد.
استمرت هذه الأزمة الطاحنة في الأسواق الأمريكية لمدة 17 شهرًا متواصلة، بدءًا من يوليو 1981 وحتى نوفمبر 1982. وعلى الرغم من طول مدتها، فإن هذه الفترة شهدت بعض الانتعاشات المؤقتة، والتي يطلق عليها المستثمرون اسم “أسواق داخل السوق”، لكن بقيت “عدوى” التشاؤم سائدة بين المتداولين.
وتكشف الجمعية الأمريكية للمستثمرين الفرديين أن 85-90% من المتداولين متشائمون أو أصابتهم عدوى التشاؤم، حيث إن هبوط الأسواق لأكثر من يوم بشكل متتال يضغط على أعصاب المتداولين لا سيما هؤلاء الأقل خبرة والأقل ثقة في تحليلاتهم للأسهم والأسواق.
وبذلك يميل هؤلاء إلى تضخيم المخاطر مما يؤدي إلى اتخاذ قرارات متحفظة للغاية، كما أنهم يعانون من صعوبة اتخاذ قرارات حاسمة، بما يجعل الكثير منهم يتخذون قراراتهم الاستثمارية تحت وطأة ضغط الوقت وضرورة اتخاذ قرار -رغم أن هذا الضغط يكون متوهمًا في الكثير من الأحيان- بما يجعل تلك القرارات خاطئة.
والطريقة الأساسية للتعامل مع تأثير التشاؤم على المداولين هي “التعليم المستمر”، أي أن يمتلك المتداول قواعد التحليل الأساسي بشكل كامل، ثم يقوم بعد ذلك بتحديث تصوراته ومعلوماته عن سوق الأسهم باستمرار، بذلك فقط يمكنه تكوين قناعات راسخة وقوية تتخطى تأثير التشاؤم النفسي.