هل يعيد التاريخ نفسه؟ تحولات النظام المالي الأمريكي في ظل سياسات ترامب

في لحظة حاسمة في تاريخ النظام المالي العالمي، تمكنت الولايات المتحدة من جمع معظم احتياطيات الذهب العالمية في خزائنها، لا من خلال الحروب، بل بوعدٍ تم تغليفه بالدولار الذي أُعتبر “المعدن النفيس الجديد”.
سرعان ما اندفعت الدول لتخزين احتياطياتها من العملة الأمريكية، حتى جاء اليوم الذي قررت فيه الولايات المتحدة أن تتراجع عن وعدها.
في عام 1971، وقف الرئيس الأمريكي “ريتشارد نيكسون” ليعلن: “لن نُبدل الدولار بالذهب بعد الآن”، معلنًا بذلك نهاية نظام “بريتون وودز” الذي كان يربط الدولار بالذهب.
وبهذا الإعلان، تحقق ما كان قد تنبأ به الاقتصادي “روبرت تريفين”، الذي رأى أن “من يتحكم في عملة العالم، لا يمكنه أن يحميها إلى الأبد”.
اليوم، وفي ظل سعي الرئيس “دونالد ترامب” لتقليص العجز التجاري، يطرح السؤال: هل يُعيد التاريخ نفسه؟ وهل سيتكرر “الخطأ” ولكن بأساليب ووسائل جديدة؟
و في عام 1944، تم التوصل إلى اتفاق “بريتون وودز” الذي نص على ربط الدولار بالذهب بسعر ثابت بلغ 35 دولارًا للأوقية، مما جعل الدولار هو العملة الرئيسية في النظام المالي العالمي.
كما كان من المقرر أن تحتفظ الدول الاحتياطية بالدولارات في خزائن الولايات المتحدة، مع ضمان تحويلها إلى ذهب عند الطلب.
هذه السياسة دفعت الكثير من الدول إلى تحويل فوائضها التجارية إلى أرصدة دولارية لدى الاحتياطي الفيدرالي، مما أدى إلى تراجع الاحتياطات الذهبية لدى هذه الدول لصالح الولايات المتحدة.
ومع بداية السبعينيات، أصبح النظام مهددًا بسبب تزايد النفقات الحكومية الأمريكية بسبب حرب فيتنام وبرامجها الاجتماعية، مما دفع واشنطن إلى طباعة المزيد من الدولارات دون تغطية كافية من الذهب. وعندما بدأت الدول تطالب بتحويل دولاراتها إلى ذهب، تراجعت الاحتياطات الأمريكية بشكل ملحوظ.
الضغط الناتج عن هذا الوضع كان الدافع وراء إعلان “صدمة نيكسون” في عام 1971، وهو الإعلان الذي أنهى رسمياً ربط الدولار بالذهب.
وعلى الرغم من أن هذه الخطوة بدت مفاجئة، إلا أن “تريفين” كان قد حذر مسبقًا من أن النظام المالي القائم على الدولار سيواجه مشاكل بسبب العجز الأمريكي المستمر.
وتقوم “مفارقة تريفين” على ملاحظة أن الولايات المتحدة بحاجة إلى العجز في تجارتها الخارجية لدعم مكانة الدولار في العالم. فإذا توقفت الولايات المتحدة عن تسجيل عجز، فإن ذلك سيؤدي إلى نقص في السيولة العالمية، مما يؤدي إلى ركود اقتصادي.
وفي المقابل، استمرار العجز يجعل الدولارات تتدفق إلى الخارج، مما يدعم النمو العالمي رغم أن هذا العجز يمكن أن يُقلل من الثقة في الدولار.
يُظهر الرئيس ترامب أن الولايات المتحدة كانت “تُستغل” من قبل شركائها التجاريين بسبب العجز التجاري الضخم. ويُظهر ترامب أن العجز التجاري يُعتبر خسارة للولايات المتحدة، ويهدف إلى تحقيق فائض تجاري مع بعض الدول.
لكن هذا النهج يغفل القوانين الاقتصادية الأعمق التي أشار إليها “تريفين”، والتي تُظهر أن العجز التجاري هو ثمن الهيمنة العالمية للدولار.
إن تقليص العجز التجاري عبر إجراءات حمائية قد يؤدي إلى تقليص دور الدولار كعملة احتياطية عالمية، مما يضر بالاقتصاد العالمي ويؤدي إلى نقص في السيولة.
كما أن السياسات الحمائية قد تؤدي إلى ارتفاع التضخم وزيادة العجز المالي في الولايات المتحدة، مما يدفع الدول إلى الابتعاد عن الدولار، ويتسبب في انكماش اقتصادي عالمي.
في ستينيات القرن الماضي، وصف وزير المالية الفرنسي “فاليري جيسكار ديستان” امتياز الدولار العالمي بـ “الامتياز الباهظ”، وذلك لما يوفره للولايات المتحدة من فوائد اقتصادية كخفض تكاليف الاقتراض وتحقيق السيطرة على النظام المالي العالمي. ومع تزايد العجز التجاري، يبدو أن الولايات المتحدة قد تُجبر على مواجهة خطر فقدان هذا الامتياز.
اليوم، في ظل السياسات الحمائية التي يتبناها ترامب، قد نشهد تراجعًا في مكانة الدولار كعملة احتياطية عالمية. وقد يُحفز هذا العديد من الدول، مثل الصين، على إضعاف عملاتها من أجل تعزيز صادراتها.
وفي المدى الطويل، قد يُضطر العالم إلى الابتعاد عن الدولار إذا أصبح الوصول إلى الأسواق الأمريكية صعبًا للغاية.
تُظهر مواقف “ترامب” العديد من أوجه التشابه مع أخطاء الماضي التي ارتكبها “نيكسون”، حيث يُغفل الدرس الأساسي المتمثل في أن العجز التجاري هو الثمن المطلوب لاستمرار مكانة الدولار كعملة احتياطية عالمية.
وإذا ما استمرت السياسات التي تركز على تقليص العجز التجاري، فقد تواجه الولايات المتحدة اضطرابًا اقتصاديًا عالميًا، كما حدث في السبعينيات، ما يؤدي إلى تقويض النظام المالي العالمي الذي أسسته.