هروب من الوظائف التقليدية: لماذا تختار النساء العمل المرن والمشاريع الخاصة؟

في تحول لافت يهز أركان سوق العمل التقليدي، بدأت النساء، اللواتي لطالما كانت الترقيات والمناصب العليا هي قمة طموحهن، في التراجع طوعاً عن مسار الصعود.
لم يعد لمعان السلم الوظيفي هو الهدف الأسمى؛ بل باتت أولويات مثل التوازن بين العمل والحياة، والحفاظ على الصحة النفسية، وإيجاد متسع للعائلة واستكشاف الذات، تتفوق في أهميتها على بريق الوظيفة الثابتة والمسار التقليدي للتقدم المهني.
هذا التغيير الجذري يعكس أزمة أولويات تتسع يوماً بعد يوم.
شكلت جائحة كوفيد-19 نقطة تحول حاسمة في هذه المعادلة، حيث اكتشفت النساء خلالها قيمة العمل المرن وسيطرت منصات العمل عن بُعد.
واليوم، مع عودة الشركات لفرض أنظمة الدوام المكتبي بالكامل، ترفض كثيرات العودة إلى النمط التقليدي. إن هذا الرفض ليس تمرداً بقدر ما هو اختيار لمسارات مهنية أكثر انسجاماً مع متطلبات حياتهن الشخصية والعائلية التي أعدن اكتشافها خلال فترة الإغلاق.
في الولايات المتحدة، تتكشف ملامح ظاهرة جديدة تتمثل في اتخاذ أعداد متزايدة من النساء، غالباً من الحاصلات على شهادات جامعية ويشغلن مناصب عالية، قرارات طوعية بالانسحاب من سوق العمل.
هذا الانسحاب ليس هروباً، بل هو “وقفة قوة” (The Power Pause)، وهو مصطلح راج مع إطلاق الكاتبة الأميركية نيها روش كتابها الذي يحمل الاسم نفسه في يناير 2025.
توصف روش “وقفة القوة” بأنها مرحلة جديدة من الحياة تركز فيها المرأة على أولويات أخرى بينما “تتطوّر”. هذه الوقفة، سواء كانت مؤقتة أو طويلة الأمد، تعبر عن استعادة المرأة لـوكالتها الذاتية وسعيها إلى نمط حياة يتسق مع قيمها ورغباتها، بعيداً عن ضغوط مسار مهني مرهق.
تشير الأرقام بوضوح إلى خطورة هذا الاتجاه على مستقبل الشركات والقيادة النسائية. فقد أشار تقرير صادر عن شركة “ماكينزي آند كو” ومنظمة “لين إن” (LeanIn.org) عام 2022 إلى صدمة حقيقية: مقابل كل امرأة في منصب إداري تتم ترقيتها، تختار مديرتان المغادرة.
وعلقت راشيل توماس، الرئيسة التنفيذية لمنظمة “لين إن”، محذرة: “تتمتع النساء بنفس مستوى طموح الرجال، لكنهن يغادرن شركاتهن بأعلى معدلات رأيناها على الإطلاق، وبمعدلات أعلى من الرجال في المناصب القيادية… نعتقد حقاً أن هذا قد يؤدي إلى كارثة للشركات”.
وتؤكد إحصاءات أخرى تباطؤ التقدم؛ فبحسب تقرير “لينكد إن” الصادر في مارس 2025، لا تشغل النساء سوى 30.6% من المناصب القيادية، بزيادة هامشية لا تتجاوز 0.2 نقطة مئوية منذ عام 2022، مما يشير إلى أن المكاسب في القيادة النسائية بدأت في التراجع بشكل مقلق.
لم تعد هذه الظاهرة مقتصرة على الموظفات العاديات، بل طالت شخصيات في قمة الهرم الوظيفي والسياسي، مما يسلط الضوء على عمق الأزمة:
- مارن ليفين (كبيرة مسؤولي الأعمال السابقة في “ميتا”): أعلنت استقالتها في فبراير 2023 لتخطط لقضاء المزيد من الوقت مع عائلتها “حتى تعيد شحن طاقتها” قبل الانطلاق في فصل مهني جديد.
- جاسيندا أرديرن (رئيسة وزراء نيوزيلندا السابقة): استقالت في يناير 2023، مشيرة إلى أنها لم تعد تملك في جعبتها ما يكفي لتأدية متطلبات منصبها. وعلى الرغم من تصريحها بأنها تتطلع لقضاء الوقت مع عائلتها، أكدت أرديرن لاحقاً أنها تجنبت صياغة توحي بأن المرأة لا تستطيع الجمع بين السياسة والأسرة.
تؤكد البيانات الحديثة حجم المشكلة خاصة بين الأمهات؛ إذ أظهر تقرير الوظائف الأميركية الصادر في بداية أغسطس أن 212 ألف امرأة تبلغ من العمر 20 عاماً فأكثر قد خرجن من سوق العمل في الولايات المتحدة منذ يناير 2025.
وكان التراجع الأكثر درامية هو في نسبة الأمهات العاملات اللواتي لديهن أطفال دون سن الخامسة، حيث بلغت مشاركتهن أدنى مستوياتها منذ عام 2022.
ويشير هذا التراجع الملحوظ بقوة إلى أن العودة القسرية إلى المكتب، وإلغاء خيار العمل من المنزل، هي القشة التي قصمت ظهر أولئك اللواتي كن يوازِنّ بين العمل ورعاية الأطفال، مما دفعهن للبحث عن خيارات حياتية ومهنية بديلة تماماً.