من يخلف الجواهري؟ السؤال الذي يقلق الاقتصاد المغربي في معركة الحفاظ على الدرهم

في كواليس الدوائر المالية الدولية، لا يخفى على أحد أن عبد اللطيف الجواهري، محافظ بنك المغرب، يمثّل حجر عثرة حقيقيًا أمام الأحلام المتكررة لصندوق النقد الدولي: تعويم الدرهم المغربي بشكل كامل و”تحريره” من قفص السياسة النقدية الصارمة.
صندوق النقد، بنصائحه “الودية” وتقاريره النمطية، لم يتوقف يومًا عن التوصية بـ”الإصلاح الكامل” لسعر صرف الدرهم، بزعم تعزيز مرونة الاقتصاد المغربي ورفع تنافسيته.
لكن الجواهري، بخبرته الممتدة في المالية العمومية ومكانته كأحد أعمدة الاستقرار الاقتصادي بالمغرب، يعرف أن الطريق إلى “التحرير الكامل” محفوف بالألغام، وأن ما يعتبره الصندوق إصلاحًا قد يتحول إلى قنبلة تضخمية تمزق ما تبقى من القدرة الشرائية للمغاربة.
الجواهري لم يقلها بصراحة، لكن مواقفه واضحة كالشمس: السيادة النقدية لا تُفرّط فيها لصالح وصفات مُعلبة تُصاغ في مكاتب واشنطن، وتُطبق على حساب شعوب الجنوب.
فمنذ اعتماد المغرب للمرحلة الأولى من نظام سعر الصرف المرن سنة 2018، ظل الجواهري حريصًا على أن لا تتحول المرونة إلى فوضى، وعلى أن يبقى البنك المركزي سيد قراره، لا خادماً لأجندة مؤسسات التمويل الدولية.
بلغة الأرقام، لم ينجرف المغرب إلى التحرير الشامل، رغم ضغوط دولية متزايدة، ومطالبات صندوق النقد بـ”الإسراع في الانتقال إلى المرحلة الثانية من الإصلاح”.
لأن الجواهري يدرك أن توقيت التعويم لا يجب أن يُحدّد من واشنطن أو باريس، بل من الرباط، عندما تنضج الظروف فعلاً: نمو مستدام، قطاع خارجي قوي، احتياطي عملات مريح، ونظام إنتاجي قادر على امتصاص صدمات السوق.
لكن السؤال الجوهري الآن هو: بعد أكثر من عقدين من القيادة الصارمة والعقلانية، من سيخلف الجواهري؟ وهل يملك هذا الخليفة الشجاعة والخبرة الكافية للوقوف في وجه صندوق النقد كما فعل الرجل الذي نال ثقة العرش، والاحترام الدولي، وإن كان يثير حنق بعض “خبراء” الخارج؟
هل سيأتي خلفٌ أقل جرأة، أكثر طواعية؟ وهل نشهد، مباشرة بعد رحيل الجواهري، بداية عملية التحرير الكامل؟ وهل يكون الدرهم هو أول من يدفع الثمن؟ هذه المخاوف مشروعة، بل ضرورية في لحظة مفصلية من تاريخ السياسة النقدية المغربية.
قد يختلف البعض مع الجواهري في أسلوبه، أو صرامته، أو حتى في وتيرة إصلاحاته، لكن من ينكر أنه حافظ على استقرار العملة الوطنية وسط أزمات عالمية كبرى؟ من ينكر أنه قاد بنك المغرب إلى مستويات من الاستقلالية والشفافية تُضرب بها الأمثال في المنطقة؟ من ينكر أنه وقف سدًا منيعًا ضد القرارات الشعبوية والتجارب المرتجلة في “التحرير”؟
يكفي أن نُذكّر: في زمن “كورونا”، وحين هرولت دول عديدة إلى طبع العملة بشكل جنوني، كان الجواهري من القلائل الذين رفضوا التورط في هذا المسار، مفضلاً الاستقرار طويل الأمد على الانعاش المصطنع. وحين اشتعلت أسعار الطاقة، وارتفع التضخم عالميًا، بقي الدرهم مستقرًا، لا يهوى عند أول عاصفة.
ربما لا يعجب هذا الكلام صندوق النقد، وربما تُحاك من الآن سيناريوهات “الضغط الناعم” على المغرب في مرحلة ما بعد الجواهري. ولكن السيادة النقدية ليست مسألة رأي أو رأفة. إنها مسألة أمن اقتصادي. وتعويم العملة ليس مجرد قرار تقني، بل قرار سيادي يتطلب شجاعة ووضوحًا ومقاومة للموضة الاقتصادية التي تدّعي أن السوق دواء لكل داء.
فهل من يُخلف الجواهري يدرك هذه الحقيقة؟ أم سيأتي ببدلة أنيقة من الخارج، حاملاً أجندة إصلاحات سريعة، بشعارات “تحرير الاقتصاد” و”جذب المستثمرين”، غير عابئ بتأثيرات الصدمة على الفئات الهشة والمقاولات المتوسطة والصغرى؟
رحيل الجواهري، حين يحصل، لن يكون حدثًا إداريًا عاديًا. إنه نهاية مرحلة وبداية أخرى. ولهذا فإن على النخب المغربية، وصنّاع القرار، وحتّى الصحافة الاقتصادية، أن يطرحوا السؤال الصعب: من يحمي الدرهم؟ من يضمن أن لا نكون أمام تحرير يُقال عنه لاحقًا: “كنا نعرف أنه قرار خطأ، ولكن فات الأوان”؟
الجواهري قد يرحل، ولكن بصمته باقية. والاختبار الحقيقي ليس في من يخلفه في الكرسي، بل في من يرث عنه الاستقلالية، الحكمة، والمناعة في وجه الإملاءات الناعمة… التي غالبًا ما تخفي وراءها عواصف لا ترحم.