من وادي السيليكون إلى وول ستريت..كيف تحوّلت البيتكوين إلى أصلٍ مؤسسي؟

في عالم المال، لا تُتخذ القرارات الكبرى عادةً في لحظة حماس. لكن في عام 2020، كسرت شركة “مايكروستراتيجي” هذا النمط التقليدي بخطوة مثيرة للجدل: تحويل ربع مليار دولار من احتياطاتها النقدية إلى عملة رقمية تُعرف بتقلباتها الحادة—البيتكوين.
لم يكن الأمر مجرد تحوّط من التضخم، بل إعلان انتماء إلى ما يمكن وصفه بـ”ثورة نقدية رقمية” بدأت تزعزع مركزية العملات التقليدية.
هذه الخطوة، التي بدت للبعض مقامرة، أشعلت شرارة سباق مؤسسي نحو البيتكوين، اجتذب شركات من مجالات لا علاقة لها بالتقنية، وغير ملامح السوق الاستثمارية التقليدية.
و على مدار خمس سنوات، جمعت “مايكروستراتيجي” أكثر من 580 ألف بيتكوين، تقدر قيمتها الحالية بحوالي 62 مليار دولار، بينما كلفتها الإجمالية نحو 39.9 مليار دولار، أي أن أرباحها الورقية بلغت أكثر من 20 مليار دولار، وهو رقم يفوق بأضعاف إيراداتها التشغيلية السنوية التي لم تتجاوز 500 مليون دولار.
أما “تسلا”، فقد اشترت البيتكوين في فبراير 2021، لكنها باعت 75% منه لاحقًا مقابل 960 مليون دولار. رغم تخليها عن قبول البيتكوين كوسيلة دفع لأسباب بيئية، فإن ما تبقى في حوزتها من العملة الرقمية ارتفعت قيمته إلى أكثر من 1.2 مليار دولار بنهاية 2023.
مع ذلك، فإن تسلا ليست بحاجة حقيقية لهذا النوع من الرهانات العالية المخاطر، بالنظر إلى إيراداتها السنوية التي تخطت 97 مليار دولار.
اتخذت شركات أخرى خطوات مشابهة. “جيم ستوب” أعلنت إدراج البيتكوين في ميزانيتها، ما أدى إلى صعود سهمها بنسبة 20%، قبل أن يتراجع إثر إعلانها عن شراء 4710 بيتكوين بقيمة 500 مليون دولار. أما “ترامب ميديا”، فقد أعلنت خطة لجمع 2.5 مليار دولار من خلال بيع أسهم وسندات بهدف الاستثمار في البيتكوين، ما أدى إلى تراجع سهمها بنسبة 10%.
تحولت “مايكروستراتيجي”، التي أعادت تسمية نفسها إلى “استراتيجي”، إلى ما يشبه صندوقًا متداولًا للبيتكوين، ما جذب مستثمرين يفضلون شراء سهمها بدلاً من التعامل المباشر مع العملات الرقمية.
تمنح هذه الطريقة بعض المزايا، مثل الاستفادة من تحركات البيتكوين المرفوعة برافعة مالية، أو تجاوز عقبات تنظيمية وتقنية. لكن بالمقابل، فإنها تنطوي على مخاطر تشغيلية ومحاسبية لا تتعلق بسعر البيتكوين نفسه.
كما أن هناك خيارات استثمارية أكثر أمانًا وشفافية، مثل صناديق البيتكوين المتداولة المعتمدة من الجهات التنظيمية، والتي توفر تعرضًا مباشرًا للعملة برسوم أقل ومخاطر أقل.
رغم المكاسب، لا تزال “مايكروستراتيجي” شركة برمجيات متوسطة الحجم، و”جيم ستوب” مجرد شركة تجزئة تترنح، ولم تغيرا نماذج أعمالهما الحقيقية. ما حدث هو مجرد إعادة توزيع للأصول، وليس تحوّلًا استراتيجيًا مستدامًا.
وهنا يظهر السؤال المحوري: لماذا يختار المستثمر وسيطًا محفوفًا بالمخاطر للرهان على البيتكوين، بينما يمكنه الاستثمار فيها مباشرة؟
رئيس “مايكروستراتيجي”، مايكل سايلور، يعتقد أن البيتكوين سيتجه إلى مستويات غير مسبوقة قد تصل إلى 13 مليون دولار بحلول 2034، مدفوعًا بدخول آلاف الشركات العامة إلى عالم العملات الرقمية.
حاليًا، هناك أكثر من 113 شركة مدرجة تمتلك إجمالًا أكثر من 800 ألف بيتكوين بقيمة 88 مليار دولار. ولكن هذه الظاهرة، برأي بعض المحللين، تعكس اختلالًا عميقًا في هيكل السوق، إذ يُفترض أن تحتفظ الشركات بالنقد لأغراض تشغيلية لا للمضاربة.
بينما تجلس شركات مثل “آبل” و”بيركشاير هاثاواي” على أكوام نقدية هائلة، تفضل أخرى المراهنة على البيتكوين، مدفوعة بأمل الربح السريع وخوفًا من تآكل قيمة الدولار.
صحيح أن “مايكروستراتيجي” حققت مكاسب هائلة، لكن هذه التجربة لا تصلح بالضرورة كنموذج يحتذى به. فالربح لا يعني صحة الإستراتيجية، ولا يكفي لتبرير المجازفة بأموال المساهمين في أصل يتسم بالتقلب الشديد والغموض القانوني.
المستثمر الذكي، في زمن يتغير فيه كل شيء بسرعة، بحاجة إلى تمييز ما بين الابتكار والمغامرة… وبين الرؤية والعدوى.