من الشارع إلى ستانفورد…كيف غير توماس سويل نظرتنا للاقتصاد

لعل كلمة اقتصاد تثير في ذهن الكثيرين صوراً معقدة من الرسوم البيانية والأرقام المتشابكة، لكن الاقتصادي الشهير توماس سويل تحدى هذه الصورة النمطية.
في كتابه “الاقتصاد الأساسي: دليل المنطق السليم للاقتصاد”، نجح سويل في تبسيط المبادئ الاقتصادية الأساسية وتحويلها إلى أداة لفهم حياتنا اليومية، من سعر الخبز إلى أسباب البطالة، بعيداً عن المصطلحات الأكاديمية المعقدة.
ما يميز مسيرة سويل ليس فقط إنجازاته الأكاديمية، بل أيضاً رحلته الفكرية الفريدة التي قادته من أحياء نيويورك الفقيرة إلى أروقة جامعة ستانفورد. بعد تركه المدرسة الثانوية، عمل سويل ساعي بريد، وشهد عن كثب الفروقات الاجتماعية والاقتصادية الصارخة.
هذه التجربة دفعته في البداية إلى اعتناق الفكر الماركسي، الذي وجده تفسيراً منطقياً لعدم المساواة.
لكن سويل لم يكتفِ بنظرية واحدة. بعد خدمته في سلاح مشاة البحرية، عاد إلى مقاعد الدراسة ليحصل على درجاته العليا من جامعات مرموقة مثل هارفارد وكولومبيا، قبل أن ينال درجة الدكتوراه من جامعة شيكاغو، معقل مدرسة السوق الحرة.
كانت تجربته في وزارة العمل الأمريكية نقطة تحول حاسمة. هناك، أدرك سويل أن الحلول الماركسية لم تكن كافية لتفسير تعقيدات الواقع. لاحظ أن للجهات الحكومية مصالحها الخاصة التي يمكن أن تساهم في ترسيخ عدم المساواة، وهي ديناميكية لا يمكن اختزالها في الصراع الطبقي وحده.
هذا الاكتشاف هز إيمانه بالماركسية والتدخل الحكومي بشكل عام، ودفعه للبحث عن بدائل أكثر واقعية، ليجد ضالته في اقتصاد السوق الحر.
دروس من مدرسة سويل |
||
1- جوهر الاقتصاد: ندرة الموارد وتعدد الاستخدامات
|
|
– يعرّف سويل علم الاقتصاد ببساطة مدهشة: إنه دراسة كيفية تخصيص الموارد النادرة ذات الاستخدامات البديلة. – فالموارد، سواء كانت وقتاً، أو مهارات، أو سلعاً، أو رأس مال، هي بطبيعتها محدودة. – ودائماً ما يواجه المجتمعات تحدي توزيع هذه الموارد المحدودة لتحقيق أقصى فائدة ممكنة. فكل قرار اقتصادي هو في جوهره مقايضة وتضحية ببديل آخر.
|
2- الأسعار هي لغة السوق
|
|
– في اقتصاد السوق، لا تعمل الأسعار كوسيلة للتبادل فقط، بل كنظام معلومات فائق الكفاءة، فهي تنقل معلومات حيوية حول العرض والطلب. – عندما يصبح منتج ما نادراً، يرتفع سعره، فيرسل إشارة للمستهلكين لتقليل استهلاكه، وللمنتجين لزيادة إنتاجه. وعندما يتوفر بكثرة، ينخفض سعره، فيشجع على المزيد من الاستهلاك. – هذا التفاعل التلقائي هو ما يجعل اقتصاد السوق قادراً على التكيف ذاتياً؛ أما الاقتصادات الموجهة مركزياً فغالبًا ما تفشل لأن أي جهة حكومية لا يمكنها أبداً تتبع أسعار ملايين السلع والخدمات وتعديلها بالسرعة والكفاءة اللازمتيْـن.
|
3- قوة الحوافز: المال كمحرك للكفاءة
|
|
– المال ليس مجرد وسيلة للدفع، بل هو حافز قوي يوّجه سلوك الأفراد والشركات – وعندما يتم التدخل في نظام الأسعار بشكل مصطنع، مثل فرض قوانين التحكم في الإيجارات، تختل منظومة الحوافز. – إذ إن بإبقاء الإيجارات عند مستوى منخفض بشكل قسري، يُفقد الملاك الحافز لصيانة ممتلكاتهم أو بناء وحدات سكنية جديدة، مما يؤدي على المدى الطويل إلى تدهور المساكن ونقص في المعروض.
|
4- المنافسة: محرك الابتكار
|
|
– المنافسة في السوق الحرة هي بمثابة عملية غربلة مستمرة، حيث يتم استبعاد الأقل كفاءة. – ومن ثمَّ، تجبر المنافسة الشركات على تطوير تقنيات أفضل، وتقديم خدمات أجود بأسعار أقل، وإلا فإنها ستخرج من السوق. – تعود هذه الديناميكية بالنفع في النهاية على المستهلكين الذين يحصلون على أفضل المنتجات بأفضل الأسعار، بينما تكافأ الشركات الناجحة بأرباح تعكس كفاءتها.
|
5- المنافسة ليست لعبة صفرية
|
|
– من الأخطاء الشائعة النظر إلى المنافسة على أنها معركة يفوز فيها طرف على حساب الآخر. – في الواقع، المنافسة الاقتصادية غالباً ما تكون عملية ذات منفعة متبادلة. على سبيل المثال، قد يُنظر إلى المهاجرين كمنافسين على الوظائف، لكنهم في الواقع يخلقون صناعات جديدة وفرص عمل لم تكن موجودة، مما يثري الاقتصاد ككل. – وبالمثل، فإن فرض قيود على الاستيراد لحماية الصناعة المحلية لا يضر الدول المصدرة فحسب، بل يؤدي إلى إجراءات انتقامية تضر بالاقتصاد العالمي ككل.
|
6- المخاطرة والمكافأة: وجهان لعملة واحدة
|
|
– يوضح سويل أن المكافآت الأعلى هي الثمن الذي يدفعه السوق لتحفيز الأفراد على تحمل مخاطر أكبر. – وهو ما يفسر لماذا تحقق الأسهم عوائد أعلى من السندات الآمنة، ولماذا تكون أجور الوظائف الخطرة أعلى من الوظائف المكتبية. – وبما أن معظم الناس يفضلون تجنّب المخاطر، فإنهم على استعداد لدفع أموال لآخرين ليتحملوها نيابة عنهم، وهذا هو جوهر صناعة التأمين.
|
7- العواقب غير المقصودة: حينما تفشل النوايا الحسنة
|
|
– كثيراً ما يضع السياسيون سياسات تبدو أخلاقية ونبيلة، لكنها تؤدي إلى عواقب وخيمة غير مقصودة على المدى الطويل. – ومن أبرز الأمثلة قوانين الحد الأدنى للأجور. ظاهرياً، يبدو رفع الحد الأدنى للأجور مفيداً للعمال ذوي الدخل المنخفض، لكنه في الواقع يرفع تكلفة توظيف كل عامل. – ونتيجة لذلك، يضطر أصحاب العمل إلى توظيف عدد أقل من العمال، مما يؤدي إلى زيادة معدلات البطالة، خاصة بين الشباب والعمال الأقل مهارة الذين كانوا المستهدفين للمساعدة.
|
8- سياسة المدى القصير: إغراء الأصوات الانتخابية
|
|
– ينتقد سويل ميل السياسيين إلى التفكير بمنطق النتائج قصيرة المدى التي تكسبهم أصواتاً في الانتخابات القادمة، بدلاً من التفكير في الصالح الاقتصادي طويل الأمد. – على سبيل المثال، قد يُفضل سياسي إنفاق الميزانية على بناء مركز مجتمعي جديد (لأنه إنجاز مرئي وجذاب سياسياً) بدلاً من إصلاح جسر قديم متهالك (وهو عمل أقل بريقاً ولكنه أكثر أهمية اقتصادياً). – القاعدة الذهبية عند تقييم أي قرار سياسي هي: “انظر إلى الحوافز التي تخلقها السياسة، لا إلى أهدافها المعلنة”.
|
9- دور الحكومة الذي لا غنى عنه
|
|
– يؤكد سويل أن للحكومة دوراً حيوياً لا غنى عنه، على الرغم من انتقاداته الشديدة للتدخل الحكومي المفرط. – فالسوق الحرة لا يمكن أن تعمل في فراغ؛ بل تحتاج إلى إطار قانوني تفرضه الحكومة لضمان احترام العقود، وحماية الملكية الخاصة، ومعاقبة الغش والاحتيال. – بدون هذه القواعد، يتحول السوق إلى فوضى. كما أن للحكومة دوراً في حماية الموارد الطبيعية المشتركة، مثل الهواء النظيف والمياه، التي قد تستنزفها الكيانات الخاصة التي لا تفكر إلا في مصالحها الضيقة. |
في النهاية، يقدم لنا سويل في كتابه ليس مجرد نظريات، بل يمنحنا أدوات للتفكير النقدي. هو يدعونا إلى تجاوز العاطفة والشعارات، وفهم أن كل قرار اقتصادي، مهما كان صغيراً، له عواقبه.
إن كتابه بمثابة دليل عملي لفهم القوى التي تحرك مجتمعاتنا، ويؤكد على أن المنطق السليم هو الأساس لفهم العالم الاقتصادي.