من الأقراص إلى السحابة… التحول الرقمي يشكل مستقبل الرعاية الصحية

في مساء هادئ في أحد مقاهي لندن، جلس ثلاثة أصدقاء يتبادلون الحديث. “جيمس” كان يدير بين أصابعه عبوة دواء تقليدية، متذمرًا من أعباء الالتزام بالجرعات اليومية. إلى جانبه، استعرض “إيثان” جهازًا صغيرًا على ذراعه يرسل بياناته الصحية مباشرة إلى تطبيق طبي يتابع حالته عن بعد.
أما “ميشيل”، فابتسم وهو يفتح هاتفه ليعرض برنامجًا رقميًا يقدّم له جلسات تفاعلية للتعامل مع القلق النفسي.
في هذه اللحظة، أدرك الثلاثة أنهم يمثلون بشكل رمزي ثلاث مراحل للطب: الدواء التقليدي، الأجهزة الذكية المتصلة، والعلاج الرقمي عبر السحابة.
لم تعد الرعاية الصحية اليوم تقتصر على الأقراص والزجاجات، بل تحوّلت إلى منظومة متكاملة تعتمد على البرمجيات، الأجهزة القابلة للارتداء، والتطبيقات الرقمية التي تنقل البيانات في الوقت الفعلي إلى مقدمي الرعاية الصحية.
يشهد قطاع العلاجات الرقمية تحولًا سريعًا في تقديم الرعاية، مع توقعات لنمو هائل خلال العقد القادم. وفقًا لتقرير شركة “Exactitude Consultancy”، بلغ حجم السوق العالمي للعلاجات الرقمية والأجهزة المرتبطة بها 7.88 مليار دولار في 2024، ومن المتوقع أن يصل إلى 56.76 مليار دولار بحلول 2034 بمعدل نمو سنوي يقارب 21.6%.
تقرير آخر من “Global Market Insights” أشار إلى حجم سوق 7.7 مليار دولار في 2024، مع توقعات بالوصول إلى 75.4 مليار دولار بحلول 2034 بنمو سنوي يصل إلى 25%. هذا النمو مدفوع بزيادة انتشار الأمراض المزمنة، واعتماد المرضى والأطباء على حلول رقمية قائمة على الأدلة العلمية.
من الأمثلة البارزة في هذا المجال تطبيق “Rejoyn” المخصص لعلاج الاكتئاب، الذي يعتمد على العلاج السلوكي المعرفي والتنبيهات الرقمية لتعزيز التزام المستخدمين، وقد حصل على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) في مارس 2024.
كما برزت شركات مثل “Pear Therapeutics” و”Click Therapeutics” التي تقدم حلولًا رقمية متعددة للحالات الصحية المختلفة.
ليست التطبيقات الرقمية وحدها من تُشكّل مستقبل العلاج، بل تلعب الأجهزة الذكية دورًا محوريًا في هذا التحول. فهذه الأجهزة الموصولة بالسحابة تحول كل قراءة صحية إلى معلومة قابلة للتحليل والمراقبة الفورية.
التحديات الرئيسية في اعتماد العلاجات الرقمية:
|
التحدي |
الشرح المختصر |
الآثار المترتبة |
|
الأمور التنظيمية |
تباين القواعد المنظمة لاعتماد الأجهزة الرقمية |
يبطّئ دخول المنتجات للسوق |
|
الخصوصية |
ارتفاع حساسية البيانات الصحية المتدفقة إلى السحابة |
يهدد ثقة المرضى والجهات الحكومية |
|
التكلفة |
غياب نماذج مالية واضحة لمن يتحمل التكلفة |
يقيّد التوسع التجاري |
|
البنية التكنولوجية |
الحاجة لمنصات قادرة على استيعاب مليارات القياسات اليومية |
يرفع التكلفة التشغيلية |
بحسب شركة “Cognitive Market Research”، يُقدّر حجم سوق الأجهزة العلاجية الرقمية بحوالي 7.12 مليار دولار في 2025. كما ظهرت مفاهيم مثل “الإنترنت الطبي للأشياء”، التي تشمل أجهزة مستشعرات ضغط الدم، مضخات الأنسولين، وأجهزة قابلة للزرع، ترسل البيانات مباشرة إلى السحابة.
تقديرات “Presidence Research” تشير إلى أن سوق “الإنترنت الطبي للأشياء” بلغ 225.8 مليار دولار في 2024، ومن المتوقع أن يصل إلى 2.29 تريليون دولار بحلول 2034 بمعدل نمو 26%.
هذه الأجهزة تمكّن الأطباء من المراقبة اللحظية والتدخل المبكر قبل تفاقم الحالات، مثل أجهزة الكشف المبكر للتورم اللمفي التي تقدمها شركة “Empidemid”.
رغم الإمكانيات الكبيرة، يواجه القطاع الرقمي تحديات مهمة. العلاجات الرقمية غالبًا ما تُصنّف كأجهزة طبية، ما يستلزم اجتياز مراجعات صارمة للموافقة، خصوصًا في الولايات المتحدة تحت إشراف FDA.

كما أن الخصوصية وحماية البيانات الصحية تُعتبر من أبرز القضايا، نظرًا لتدفق بيانات المرضى عبر الأجهزة والسحابة. مع وجود نحو 75 مليار جهاز صحي ذكي عالميًا بحلول 2025، يزداد الضغط على البنى التحتية السحابية لتوفير أمان وكفاءة في معالجة هذه البيانات.
مسألة التكلفة أيضًا محورية: هل ستتحملها شركات التأمين، أم الأنظمة الصحية الحكومية، أم المرضى أنفسهم؟ بعض الدول مثل ألمانيا بدأت بتبني آليات واضحة لصرف التطبيقات الرقمية بوصفة طبية ضمن نظام “DiGA”، ما يُعد خطوة عملية نحو اعتماد هذه الحلول.
التحول من الأقراص التقليدية إلى الأجهزة الذكية والعلاجات الرقمية لا يغير فقط طريقة استهلاك الدواء، بل يعيد تشكيل المنظومة الصحية بأكملها: المرضى، الأطباء، شركات الأدوية، والهيئات التنظيمية. رغم التحديات المتعلقة بالموافقة التنظيمية، حماية البيانات، وآليات التعويض، فإن نجاح التعامل مع هذه العقبات قد يفتح الطريق لرعاية صحية أكثر دقة، خصوصية، وتكلفة منخفضة على المدى الطويل.




