معركة الرقائق…صراع الهيمنة بين واشنطن وبكين في زمن الذكاء الاصطناعي

في إطار التصاعد المتواصل للتنافس التكنولوجي العالمي، شهدت بكين الشهر الماضي زيارة ملفتة للرئيس التنفيذي لشركة “إنفيديا”، جينسن هوانغ، الذي أرسل من خلالها رسالة واضحة تُبرز التزام شركته بخدمة السوق الصينية رغم التشديدات الأمريكية المتزايدة.
تأتي تصريحات هوانغ في تحدٍ مباشر لجهود واشنطن الرامية إلى تشديد الحظر على تصدير رقائق الذكاء الاصطناعي المتطورة إلى الصين، في حملة انطلقت منذ عام 2022 بهدف قطع وصول بكين إلى التكنولوجيا الحيوية لتطوير نماذج الذكاء الاصطناعي.
وقد شملت هذه الحملة فرض قيود صارمة على قدرات المعالجات وسرعة الذاكرة في الرقائق.
شركة “إنفيديا” لم تكن مجرد متفرج، بل بادرت بتطوير رقائق معدلة مثل H800 وH20 لتتوافق مع القيود دون خرقها صراحة، محاولة بذلك الموازنة بين الامتثال والابتكار في آنٍ واحد.
لكن رغم القيود، تواصل هذه الرقائق دخول السوق الصينية عبر شبكة معقدة من الوسطاء ومراكز البيانات الخارجية، حيث تُستأجر سعات الحوسبة خارج أمريكا أو تُشترى عبر أطراف ثالثة يصعب تتبعها، مما يسمح لبكين بالحصول على التكنولوجيا التي تحاول واشنطن حجبها.
هذا الواقع أعطى زخماً للسوق الرمادية، التي شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في أسعار الرقائق، حيث تُباع بأسعار تفوق قيمتها الأصلية بنسبة تصل إلى 50%.
مثلاً، أصبحت سنغافورة ثاني أكبر سوق لشركة “إنفيديا” بعد الولايات المتحدة، على الرغم من أن غالبية هذه الرقائق لا تبقى داخلها.
ومع ذلك، تواجه واشنطن تحديات جمة في فرض القيود، إذ يعاني مكتب الصناعة والأمن الأمريكي من نقص في الموارد، كما تواجه مقترحات تعطيل الرقائق عن بُعد عوائق تقنية وأمنية، ما يجعل الحظر أداة محدودة التأثير وسط شبكة تهريب مرنة ومتجددة.
المسألة لا تتعلق فقط بمنع شحنات الرقائق، بل بسباق الزمن الذي تستثمر فيه الصين موارد ضخمة لتطوير صناعتها المحلية في أشباه الموصلات، في خطوة استراتيجية نحو استقلال تكنولوجي طويل الأمد.
وفي ظل هذا الصراع، تُطرح تساؤلات كبيرة حول من سيهيمن على مستقبل الذكاء الاصطناعي في العقد القادم، خاصة مع وجود فجوات تنظيمية ونقص في الكوادر الرقابية، فضلاً عن الطبيعة المتقدمة والتجاوزية للتكنولوجيا الحديثة التي تتخطى الحواجز السياسية بسهولة.
أما “إنفيديا”، فهي عالقة بين النمو التجاري والامتثال القانوني، حيث تستمر إيراداتها من أسواق خاضعة للحظر بشكل مباشر أو غير مباشر، وتواجه احتمال خسائر مالية ضخمة إذا تم تشديد القيود مستقبلاً.
في نهاية المطاف، يُبرز هذا الصراع أن الحروب التقنية لا تقتصر على الأرض، بل تمتد إلى مراكز البيانات ومختبرات البحث، حيث تتحول الرقاقة الإلكترونية إلى أداة قوة سياسية واقتصادية تنافس حتى موارد الطاقة.
ولتستمر في قيادة هذا السباق، يتوجب على واشنطن تعزيز استثماراتها في البحث والابتكار، وتوطيد شراكاتها التكنولوجية دولياً، بدلاً من الاقتصار على سياسات الحظر التي أثبتت محدوديتها.
فالهيمنة في عصر الذكاء الاصطناعي لا تُبنى على الحواجز الجمركية فقط، بل على سيطرة المعرفة والابتكار.