الاقتصادية

ما لا تقوله الأرقام: كيف علمنا سِن أن نقرأ الاقتصاد بعين الفيلسوف؟

حين يغدو الاقتصاد أداة هيمنة لا تحرر، وتتحول مؤشرات النمو إلى أقنعة تخفي فقر الإنسان وقهره، تظهر الحاجة إلى من يذكّر هذا العلم بأصله الأخلاقي.

في هذا السياق، بزغ نجم المفكر الهندي أمارتيا سِن، ليس كرقم في معادلات التنمية، بل كصوت أخلاقي سعى لأن يعيد للإنسان مكانته في قلب السياسة الاقتصادية.

لم يكن عالم اقتصاد تقليديًا يسعى لرفع معدلات الإنتاج، بل فيلسوفًا سأل السؤال الجوهري: ما معنى التنمية إذا لم تُفضِ إلى حياة كريمة؟

وُلد أمارتيا سِن عام 1933 في البنغال، في أسرة تنتمي إلى الوسط الأكاديمي، لكن حياته لم تبدأ من صفحات الكتب، بل من فاجعة إنسانية لا تُنسى.

ففي عام 1943، كان شاهدًا على مجاعة البنغال الكبرى، التي حصدت أرواح ثلاثة ملايين إنسان، رغم أن المخازن لم تكن خاوية. أدرك حينها أن الكارثة لم تكن في ندرة الطعام، بل في غياب العدالة، وعجز الفقراء عن الوصول إليه.

هذا الإدراك المبكر رسّخ في نفسه سؤالًا أخلاقيًا سيُشكل لاحقًا جوهر مسيرته العلمية: كيف يمكن لمجتمع أن يشهد هذا الكم من الحرمان في قلب الوفرة؟

رحلته الفكرية، التي بدأت في كلكتا، عبرت إلى كامبريدج، ثم إلى أرقى جامعات العالم، حيث لم يكن مجرد باحث، بل صاحب رسالة حملها في قلبه إلى المنابر الأكاديمية، والهيئات الدولية، وصناع القرار.

و في كتابه المفصلي “الفقر والمجاعات” (1981)، دحض سِن الفرضيات الكلاسيكية، وأثبت أن المجاعات ليست حتمية طبيعية، بل نتائج مباشرة لسياسات خاطئة وفشل أخلاقي في التوزيع.

أبرز الإسهامات الفكرية لـ “أمارتيا سِن”

مقاربة القدرات: الإنسان هو الغاية لا الوسيلة

– تُعد نظرية “مقاربة القدرات” هي الجوهرة في تاج إسهامات أمارتيا؛ فمن خلالها، أطلق ثورة فكرية بددت المفهوم السائد الذي يختزل رفاهية الفرد في مستوى دخله.

– وجادل بأن المقياس الحقيقي للرفاهية يكمن في تقييم “قدرات” الأفراد على عيش الحياة التي يصبون إليها؛ فامتلاك كتاب (كمورد) لا قيمة له إن كان الشخص أمّيًا (يفتقر للقدرة على القراءة)، ووجود مستشفيات لا يعني شيئًا لمن لا يملك القدرة على الوصول إليها.

– لذلك، شدّد أمارتيا على أن التنمية الحقيقية يجب أن تُعنى بتوسيع نطاق الحريات الجوهرية للإنسان؛ أي قدرته على نيل تعليم جيد، ورعاية صحية لائقة، والمشاركة في الحياة العامة.

التنمية حرية

– بلور أمارتيا المفهوم الثوري لمقاربة القدرات في كتابه الشهير “التنمية حرية” (1999)، حيث أكد أن الحرية ليست مجرد وسيلة للتنمية، بل هي غايتها الأسمى.

– تحدى الفكرة السائدة التي تختزل التنمية في النمو الاقتصادي، مؤكدًا أنها في جوهرها عملية توسيع لنطاق الحريات الإنسانية.

– فالحريات السياسية، والحقوق المدنية، والفرص الاجتماعية، وكفاءة المؤسسات العامة، ليست مجرد أهداف ثانوية، بل هي المحرك الأساسي الذي يمكّن الأفراد من ممارسة قدراتهم وتحقيق حياة ذات معنى وقيمة.

نظرية الاختيار الاجتماعي

– قدّم الاقتصادي الهندي إسهامات جليلة في حقل “نظرية الاختيار الاجتماعي”، خاصة فيما يتعلق بالرفاه الاجتماعي.

– انتقد فكرة وجود آلية مثالية ومتماسكة للاختيار الاجتماعي قادرة على تجميع تفضيلات الأفراد بدقة وتحويلها إلى قرار جماعي.

– وتُظهر أعماله مدى التعقيد الكامن والتحديات الأخلاقية العميقة التي تنطوي عليها محاولة بناء توافق مجتمعي من تفضيلات فردية متباينة.

الفقر والمجاعات

– في سياق متصل، سلطت أبحاثه حول الفقر والمجاعات الضوء على الأسباب الجذرية لهذه الكوارث.

– حيث يجادل أمارتيا بأن المجاعات نادرًا ما تكون نتاجًا لنقص في إمدادات الغذاء بقدر ما هي نتيجة لإخفاقات بنيوية في آليات التوزيع، والاستحقاقات، والعوامل السياسية.

– ويؤكد تحليله على الدور الحاسم للمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية في منع وقوع المجاعات ومعالجتها بفعّالية.

قضية اللامساواة بين الجنسين

– اشتُهر أمارتيا بدفاعه المستميت عن قضية المساواة بين الجنسين، حيث شدّد على أن التفاوت بين الجنسين ليس مجرد مشكلة عدالة اجتماعية، بل هو عائق رئيسي أمام التنمية الشاملة والرفاه الإنساني ككل.

– وتستكشف أعماله التفاعل المعقد بين النوع الاجتماعي، والتنمية، والفاعلية الذاتية، داعيًا إلى تمكين المرأة بوصفها ركيزة أساسية للتنمية البشرية.

العدالة الاجتماعية والأخلاق

– تتميز أعمال أمارتيا بدمجها العميق للاعتبارات الأخلاقية في صميم التحليل الاقتصادي.

– فهو يبرز أهمية العدالة، والإنصاف، وضرورة إزالة كافة أشكال التمييز واللامساواة.

– وتتحدى كتاباته المنظورات النفعية الضيقة، وتدعو إلى تبني نهج أكثر شمولية في رسم السياسات العامة.

وبدلًا من اختزال الفقر في الدخل، صاغ مفهوم “الاستحقاق والحرمان”، مؤكدًا أن الإنسان الفقير ليس فقط من لا يملك مالًا، بل من يُحرم من الإمكانيات التي تمكّنه من تحقيق ذاته.

ومن هذه الرؤية انبثق “منهج القدرات”، الذي قدّمه بديلاً عن مقاييس التنمية الكمية. لم يعد السؤال: “ما مقدار الناتج؟” بل:

هل يستطيع الإنسان أن يتعلم؟

أن يعمل؟

أن يعيش بصحة؟

أن يختار مستقبله بحرية؟

اعتمد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي هذا المنهج كأساس لتطوير مؤشر التنمية البشرية (HDI)، وهو من أبرز إنجازات سِن في دمج القيم الإنسانية في تقييم السياسات العامة.

و لم تقتصر مساهمات أمارتيا سِن على فكر التنمية، بل امتدت إلى نظرية الاختيار الاجتماعي، حيث جادل ضد النظريات الاقتصادية التي تفصل بين الأخلاق والسياسة، مؤكدًا أن الاقتصاد لا يمكن فصله عن القيم.

كما كان من أبرز الأصوات المدافعة عن حقوق المرأة، معتبرًا أن التمييز ضدها لا يعيقها فقط، بل يعطّل طاقات المجتمع بأسره.

بالنسبة له، لا تنمية دون مساواة، ولا حرية دون عدالة جندرية.

قد لا تُقاس عظمة المفكر بعدد ما كتب، بل بمدى التغيير الذي أحدثه.
أمارتيا سِن لم يمنح الاقتصاد نظريات جديدة فحسب، بل منحه بوصلة أخلاقية طال غيابها. جعل من الحرية جوهر التنمية، ومن العدالة أساس السياسات، ومن كرامة الإنسان هدفًا نهائيًا لأي تقدم.

لقد رحل الرجل، وبقي أثره: في المؤشرات الأممية، وفي السياسات الوطنية، وفي عقول كل من آمن أن الاقتصاد لا يكتمل إلا إذا انحاز للضعفاء، وفتح آفاق الحرية أمام الجميع.

الثروة الحقيقية، كما آمن بها أمارتيا سِن، لا تُختزل في ما نملكه، بل في ما يمكننا أن نصبح عليه.

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى