ماونتن باس: منجم المعادن النادرة في صحراء موهافي ورمز الأمن الصناعي

في قلب صحراء موهافي القاحلة، وعلى مقربة من الطريق السريع الذي يربط بريق لوس أنجلوس بصخب لاس فيجاس، يكمن كنز استراتيجي طالما أغفله كثير من المسافرين: منجم “ماونتن باس” للعناصر الأرضية النادرة، وهو المنجم الوحيد العامل في الولايات المتحدة، والذي بات اليوم رمزاً لأمن الطاقة والتكنولوجيا في زمن تصاعد التوترات الجيوسياسية.
هذا المنجم، الذي أغلق أبوابه في بداية الألفية بسبب تحديات بيئية واقتصادية، عاد إلى الحياة في 2017 بعد إنقاذه من الإفلاس، ليصبح مركزاً لإعادة بناء سلسلة إمداد محلية حيوية تُغذي الصناعات المتقدمة التي تعتمد بشكل شبه كامل على الصين حتى وقت قريب.
هذه المواد، التي كانت في السابق مجرد مواد كيميائية غامضة، أصبحت اليوم لا غنى عنها في صناعة الرقائق الدقيقة، المحركات العسكرية، توربينات الطاقة النظيفة، والسيارات الكهربائية.
ولأن الصين تسيطر على أغلب الإنتاج العالمي، تحولت هذه المواد إلى ورقة ضغط استراتيجية في النزاعات الاقتصادية والسياسية بين القوى الكبرى.
رغم أن هذه العناصر ليست نادرة بالمعنى الحقيقي، إلا أن استخراجها ومعالجتها معقد ومكلف، ويُحاط بمخاطر بيئية كبيرة، ما دفع الولايات المتحدة ودول أخرى إلى نقل هذه الصناعات إلى الخارج سعياً إلى تقليل التكاليف. لكن هذا القرار، الذي بدا منطقياً آنذاك، يتضح اليوم أنه كان قصر نظر استراتيجي.
من بريطانيا التي تسعى لاستعادة مجد صناعة النسيج، إلى أستراليا التي تحاول إنقاذ قطاع السيارات، وصولاً إلى اليابان التي تضخ تريليونات الين في صناعة أشباه الموصلات، الجميع يعيد التفكير في اعتمادهم على استيراد الصناعات الحيوية ويعملون على إعادة بنائها محلياً.
منذ اكتشافه منتصف القرن العشرين لاستخراج معدن الباستناسايت الذي يعزز ألوان التلفاز الملون، شهد المنجم مراحل من الازدهار والركود. تراجع الإنتاج توقف في 2002 بعد فضائح التلوث وحركة الإنتاج إلى الصين، لكن الآن وبعد أكثر من عقدين، عاد ليكون منارة الصناعة الأمريكية في مجال المعادن النادرة.
اليوم، يستعيد “ماونتن باس” موقعه في السوق عبر إعادة التكرير والمعالجة محلياً، ويوفر وظائف بأجور تفوق بكثير نظيراتها في الصين. هذا التحول يعتبره مالكوه بمثابة “إعادة توطين قدرة حيوية للأمن القومي”، رغم التحديات الاقتصادية الكبيرة المصاحبة.
لكن العودة إلى الإنتاج المحلي ليست الحل النهائي. فقد شهدت الدول الصناعية تراجعاً في نسبة التصنيع ضمن اقتصادها رغم نمو الوظائف. واعتماد السياسات الحمائية وحدها قد يقود إلى أضرار اقتصادية جسيمة.
الحل يكمن في بناء شراكات استراتيجية دولية تتيح الاستفادة من ثروات الدول المختلفة، مثل فيتنام وأستراليا والهند والبرازيل، لبناء شبكة إمداد عالمية مرنة.
ختاماً، بين التوترات الجيوسياسية وحاجة الصناعات المتقدمة، يتضح أن تحقيق الأمن الصناعي ليس بالتقوقع الوطني بل بالتعاون البنّاء بين الدول، ليتحول المورد الطبيعي من أداة ضغط إلى ركيزة للاستقرار والتنمية المشتركة.