صراع المصالح وصعود المؤشرات: كيف تعيد السياسة تشكيل خريطة الاستثمار

في الزمن المعاصر، لم تعد السياسات تُصاغ بمعزل عن المصالح الاقتصادية، ولم يعد الاقتصاد يتحرك دون أن تطاله رياح السياسة.
فكل قرار سياسي يحمل في طياته تداعيات اقتصادية، والعكس صحيح؛ حيث تُجبر التحولات الاقتصادية السريعة صانعي القرار على إعادة رسم السياسات وفقًا لمتطلبات السوق والمنافسة الدولية.
وفي هذا السياق، أصبحت الأسواق المالية مرآة شديدة الحساسية تعكس كل اضطراب سياسي، وتستجيب لأي تغير في موازين القوى.
في كل مرة تلوح فيها أزمة سياسية، تبدأ مؤشرات البورصات في الارتعاش، وتتحرك رؤوس الأموال بحثًا عن ملاذات آمنة، قبل أن تبدأ موجة من التكيف مع الواقع الجديد.
هذه التفاعلات لا تحدث فقط على مستوى الأرقام، بل تكشف في جوهرها عن توازن دقيق بين الثقة والمخاطرة، وبين الصدمة والفرصة.
تُعد أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 واحدة من أبرز الأمثلة التي تجسد أثر التوترات الجيوسياسية على الأسواق.
فحين كشفت الولايات المتحدة عن نشر الاتحاد السوفيتي لصواريخ نووية في كوبا، شهد مؤشر “داو جونز” تراجعًا بنسبة 1.2% في يوم الإعلان، ثم تبعه انخفاض إضافي بنسبة 0.5% في الأسبوعين التاليين، رغم أن العالم كان على حافة مواجهة نووية شاملة.
ما يثير الانتباه هو أن الأسواق لم تنهار بشكل كارثي كما كان متوقعًا، ويُعزى ذلك إلى محدودية المعلومات المتاحة للرأي العام آنذاك.
ومع إعلان الاتفاق بين واشنطن وموسكو بشأن سحب الأسلحة النووية وتفادي التصعيد، قفزت الأسواق بنسبة 4.5% في غضون أربعة أسابيع، وهو ما يكشف ظاهرة متكررة: الأسواق تتفاعل بقوة مع نهاية الاضطراب أكثر مما تتأثر ببدايته، ما يجعل لحظة الانفراج فرصة ذهبية للمستثمرين.
مثال آخر أكثر حداثة هو فوز دونالد ترامب المفاجئ في انتخابات 2016. فقد تسبب هذا الحدث غير المتوقع بهبوط حاد في العقود الآجلة لمؤشر “ستاندرد أند بورز” بنسبة 5% خلال ليلة واحدة، نتيجة غياب اليقين بشأن توجهاته الاقتصادية.
لكن الأسواق سرعان ما استدارت، مدفوعة بخطاب تصالحي ألقاه ترامب وتعهد فيه بتوحيد البلاد وتحفيز النمو عبر البنية التحتية وتخفيض الضرائب.
أطلقت هذه الرسائل موجة صعود تاريخية عُرفت بـ”رالي ترامب”، حيث قفز مؤشر “داو جونز” من 18,300 نقطة إلى أكثر من 21,000 خلال أقل من خمسة أشهر.
كما ارتفعت أسهم البنوك والصناعات الثقيلة والطاقة بفعل التوقعات بتخفيف القيود وزيادة الإنفاق العام، في حين واجهت قطاعات التكنولوجيا والرعاية الصحية ضغوطًا بسبب مخاوف تتعلق بالهجرة وإصلاحات “أوباما كير”.
لكن الأهم من كل ذلك هو أن الأسواق لم تكن تتفاعل فقط مع ترامب كشخص، بل مع التحول السياسي الكلي الذي مثّله فوزه: حزب جمهوري يسيطر على الرئاسة والكونغرس، ما أتاح تنفيذ إصلاحات اقتصادية هيكلية واسعة.
في عام 2019، شهدت هونغ كونغ احتجاجات جماهيرية ضد قانون يتيح تسليم المطلوبين إلى الصين، سرعان ما تحولت إلى حراك مناهض لتدخل بكين في الحكم الذاتي للمدينة.
هذه الاضطرابات السياسية كانت لها كلفة باهظة: خسر مؤشر “هانج سينج” أكثر من 12%، وتبخر نحو 622 مليار دولار من القيمة السوقية للأسهم خلال أسابيع.
قطاع النقل كان من أكبر الخاسرين، حيث اضطرت شركة “كاثي باسيفيك” لإلغاء مئات الرحلات، وتراجعت أسهمها بأكثر من 20%. لكن الأثر الأعمق كان على مكانة هونغ كونغ كمركز مالي عالمي، إذ تعرضت ثقة المستثمرين لضربة قوية ظلّت آثارها ممتدة حتى بعد هدوء الشارع.
لفهم العلاقة بين السياسة والاستثمار بصورة أكثر علمية، طوّر باحثو جامعة هارفارد مؤشرًا يُعرف بـ”مؤشر المخاطر الجيوسياسية” (GPR)، يقيس مدى التوتر السياسي بناءً على تكرار تناول موضوعات مثل الإرهاب والصراعات المسلحة في الصحف الكبرى.
وقد أظهر التحليل أن ارتفاع هذا المؤشر بمقدار 100 نقطة يؤدي إلى زيادة عائد الذهب بنسبة 2.5%، مع تراجع محدود في أداء الأسهم. هذا يعكس الدور الذي يلعبه الذهب كملاذ آمن وقت الأزمات، ويؤكد حساسية الأسواق للأخبار السياسية حتى قبل أن تنفجر الأزمات فعليًا.
و رغم أن الأزمات السياسية غالبًا ما تظهر بشكل مفاجئ ولا يمكن التنبؤ بها، إلا أن تأثيرها لا يكون سلبيًا دائمًا. كثيرًا ما يُتبَع التراجع بانفراجة تؤدي إلى موجات صعود تفوق الخسائر السابقة. لكن هذا يتوقف على مجموعة من العوامل، مثل درجة استقرار النظام السياسي، وحجم التغيير المفاجئ، وعدد الأطراف المنخرطة في المشهد السياسي واتجاهاتها.
بمعنى آخر، الاضطرابات السياسية لا تمثل فقط خطرًا على الأسواق، بل يمكن أن تفتح أبوابًا واسعة أمام الفرص الاستثمارية لمن يملكون رؤية وتحليلاً رشيدًا، ويعرفون أن كل أزمة، مهما كانت مظلمة، قد تحمل في طياتها بذور الصعود المقبل.