سندات الطلب تُعيد إنتاج ثقافة المحسوبية وتُفرغ المنافسة من مضمونها

مع دخول المرسوم الجديد المنظم للصفقات العمومية حيز التنفيذ، استبشرت الأوساط الاقتصادية خيراً بعهد جديد من الحكامة؛ غير أن الواقع الميداني كشف عن عودة “شبح” سندات الطلب (Bons de commande) ليخيم على شفافية التدبير المالي.
فبدلاً من أن تكون وسيلة استثنائية للسرعة والنجاعة، تحولت في نظر الكثيرين إلى أداة لالتفاف البعض على روح الإصلاح، مما أعاد نقاش المحسوبية وإقصاء الكفاءات إلى الواجهة.
وفي هذا الصدد، نقل البرلماني محمد بادو هذا الجدل إلى قبة المؤسسة التشريعية، موجهاً سؤالاً كتابياً “حارقاً” إلى وزارة الاقتصاد والمالية. ونبه بادو إلى أن الممارسات الحالية تفرغ النصوص القانونية من جوهرها التنافسي، وتضع مكاتب الدراسات والاستشارة أمام جدار مسدود من الشروط التعجيزية.
وتوقف البرلماني عند ظاهرة غريبة تتجلى في اعتماد إدارات عمومية لآجال زمنية وصفها بـ “غير المنطقية”؛ حيث تُطالب مكاتب الدراسات بإنجاز ملفات تقنية معقدة في غضون أيام قليلة.
واعتبر أن هذه المهل القصيرة جداً تثير شكوكاً مشروعة حول وجود “توجيه مسبق” لطلبات العروض، بحيث لا يكون قادراً على الوفاء بها إلا من كان على علم بها قبل نشرها.
ولم تقتصر الانتقادات على ضيق الوقت، بل شملت “تفصيل” شروط تقنية لا علاقة لها بطبيعة الخدمة، كفرض شهادات اعتماد تعجيزية تهدف عملياً إلى إقصاء المقاولات الصغيرة والمتوسطة، وحصر الاستفادة في فئة محظوظة من الفاعلين، مما ينسف مبدأ تكافؤ الفرص الذي نص عليه الدستور وقانون الصفقات.
وانتقد النائب البرلماني بشدة المراهنة على معيار “أقل ثمن” كمعيار وحيد وأوحد للحسم في العروض.
وحذر من أن هذا التوجه يدفع نحو “حرب أسعار” غير شريفة، تؤدي في النهاية إلى تقديم خدمات رديئة الجودة تهدد سلامة المشاريع العمومية، وتدفع بمكاتب الدراسات الجادة نحو الإفلاس أو الانسحاب من السوق.
وفي ختام مساءلته، دعا بادو وزارة الاقتصاد والمالية إلى ضرورة التدخل العاجل عبر:
تحديد آجال معقولة تتناسب مع حجم وطبيعة الدراسات المطلوبة.
منع وضع عراقيل تقنية غير مبررة تخدم أجندات ضيقة.
اعتماد مفهوم “العرض الأفضل” (أحسن كلفة) الذي يوازن بين السعر والجودة بدلاً من الأقل ثمناً.
تفعيل آليات المراقبة الصارمة لضمان عدم تحول سندات الطلب إلى “ريع” اقتصادي.
إن التحدي اليوم لا يكمن في جودة النصوص القانونية، بل في “عقليات التنفيذ”.
فإذا كان المرسوم الجديد للصفقات العمومية قد جاء ليعزز الثقة بين الدولة والقطاع الخاص، فإن استمرار ثغرات سندات الطلب قد يقوض هذا المسار.
إن استجابة وزارة المالية لمثل هذه التنبيهات البرلمانية ستكون بمثابة اختبار حقيقي لإرادة الحكومة في تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وضمان أن تذهب أموال دافعي الضرائب لمن يستحقها بناءً على الكفاءة والابتكار، لا على القرب والمحاباة.




