الأخبارالأسهمالاقتصادية

دوامة القطيع في الأسواق المالية: لماذا يبيع المستثمرون معًا؟

في غرفة تحكم زجاجية في لندن، لم يكن الصمت علامة هدوء، بل نذير عاصفة. عند الساعة 11:00 صباحًا، في صباح شتوي هادئ، كان مدير استثمار شاب يجلس أمام شاشاته الثلاث يراقب السوق بصمت.

لم يكن هناك خبر اقتصادي مفاجئ، ولا تقرير أرباح مخيب، ولا توتر جيوسياسي يبرر أي تقلب. ومع ذلك، بدأت الأسهم فجأة في الانخفاض، كأن موجة من الذعر اجتاحت السوق دفعة واحدة.

لم يكن الهبوط في البداية سوى وخز بسيط، تحرك غير مبرر لسهم كبير. لكن ما إن ضغط أحد المديرين على زر البيع استجابة لهذا الوخز، حتى بدأت أوامر البيع تتزايد على منصة التداول، وتبعه آخرون دون تفكير، لتتحول دقائق معدودة إلى موجة عالمية تشمل عشرات الصناديق الاستثمارية، محولة السوق إلى دوامة من الانخفاضات السريعة.

على بعد أمتار، جلس مستثمر فردي صغير أمام حاسوبه المحمول في شقته، يتناول قهوته بهدوء. إنه ليس جزءًا من تلك الدائرة المغلقة التي تتبادل قرارات البيع بسرعة البرق. كان لا يندفع وراء البيع، بل يراقب السوق بعين فاحصة، ملاحظًا سرعة انتشار الذعر بين المستثمرين الآخرين وحركة البيع المتسلسلة التي تعكس خوفًا جماعيًا لا عقلانيًا.

ومع صبره وتحليله الدقيق، كان مستعدًا لاقتناص الفرص عند انهيار الأسعار، مبرزًا الفرق البسيط بين من يتبع القطيع ومن يقف خارج موجة الذعر للحظة واحدة فقط، ليصبح صائد الفرص في فوضى الجماعة.

العوامل المؤثرة في سلوك القطيع

العامل

الوصف

تأثيره على السوق

تدفق المعلومات

افتراض المستثمرين أن الآخرين يمتلكون معلومات أفضل

يؤدي إلى تبني قرارات جماعية متشابهة بسرعة

القلق المتعلق بالسمعة

مديرو الأصول يتحركون لتجنب الأداء الأسوأ من السوق

يعزز الانسياق مع القطيع حتى لو كان القرار غير منطقي

قيود السيولة

بعض المستثمرين مضطرون للبيع لتغطية طلبات السحب

يسرع الانخفاض ويزيد شدته

الاستثمار السلبي

الصناديق المؤشرة تتبع حركة السوق ميكانيكيًا

يحول أي موجة صغيرة إلى تيار قوي يشمل السوق بالكامل

سلوك القطيع في الأسواق المالية يظهر عندما يتخلى المستثمر عن قناعاته الفردية ليتحرك مع الاتجاه العام، حتى وإن كانت تحليلاته تشير إلى مسار مختلف. هذا ما يبدو عقلانيًا في الظاهر، لكنه غالبًا انعكاس لضغط نفسي واجتماعي، يجعل البقاء مع الجماعة أقل تكلفة من المخاطرة بالقرار الفردي.

تشير الأبحاث في المالية السلوكية إلى أن هذا السلوك ينشأ من عدة عوامل مترابطة، أبرزها:

  • تدفق المعلومات (Informational Cascades): عندما يقوم عدد من المستثمرين ببيع أو شراء، يفترض الآخرون وجود معلومات خاصة لديهم، فيتبعونهم، وتتحول قرارات قليلة إلى موجة واسعة بغض النظر عن صحة المعلومات الأصلية. هذا ما يخلق تأثير كرة الثلج.

  • القلق من السمعة: مديرو الأصول يقيمون بناءً على أداء السوق وليس الأداء الفردي فقط، ما يجعل المخاطرة بالخروج عن الإجماع أقل جاذبية. يُعرف هذا بـ “أمان الوقوف مع القطيع” (Safety in Crowds).

  • قيود السيولة وإدارة المخاطر: بعض الصناديق، خصوصًا الممولة بالديون، مضطرة للبيع عند انخفاض الأسعار لتلبية متطلبات السيولة (Margin Calls)، مما يزيد من قوة موجة البيع ويسرّعها.

  • الاستثمار السلبي وانتشار الصناديق المتبعة للمؤشرات: الدخول والخروج الجماعي عبر الصناديق المتداولة في البورصة (ETFs) يزيد من قوة التذبذبات ويحوّل السوق أحيانًا إلى كتلة واحدة تتحرك بشكل متزامن.

التاريخ مليء بحالات توضح قوة تأثير القطيع، حيث يتغلب الخوف على المنطق:

  • الإثنين الأسود (19 أكتوبر 1987): تراجع مؤشر داو جونز بنسبة $22.6\%$ في جلسة واحدة، ليس بسبب خبر اقتصادي، بل نتيجة سلسلة قرارات بيع صغيرة تزامنت مع التداول الآلي، مما أدى إلى حلقة مفرغة من البيع.

  • حادثة فلاش كراش (6 مايو 2010): أظهرت التقلبات الحادة في السوق الأمريكي دور القطيع في اندفاع البيع، حيث ساهمت الخوارزميات وبرامج التداول عالية التردد (HFT) في تسريع وتضخيم رد الفعل الجماعي، رغم عدم وجود أحداث اقتصادية كبيرة في الأساس.

  • أسواق شرق أوروبا أثناء جائحة كوفيد-19: أظهرت بيانات روسيا والتشيك وسلوفينيا والمجر وكرواتيا بين 2010 و2021 أن الخوف من الجائحة دفع المستثمرين إلى محاكاة بعضهم البعض، ما زاد تزامن البيع بين الأسواق بشكل كبير.

عندما يتحول السوق إلى كتلة جماعية، لا تعكس الأسعار تقييمات حقيقية بل موجة انفعالية جماعية، ما يؤدي إلى فقدان القدرة على تسعير المخاطر بشكل صحيح وظهور مخاطر هيكلية متعلقة بالسيولة والرافعة المالية وتركيز الاستثمارات.

كما يزيد استخدام الاستراتيجيات المماثلة عبر محافظ متعددة من احتمالية انتشار موجة بيع عند أي هبوط طفيف، ما يعزز الحاجة لتدخل تنظيمي يزيد الشفافية على مراكز الرافعة المالية، ويضع قواعد لاختبار سيناريوهات الخروج الجماعي.

على واضعي السياسات إدراك أن التقلبات قد لا تكون دائمًا نتيجة ضعف اقتصادي، بل قد تكون نتاجًا لردود فعل نفسية مبالغ فيها يتم تضخيمها بواسطة آليات السوق الحديثة.

سلوك القطيع يحول الأسواق من فضاءات تحليل عقلاني إلى مسارح نفسية يتفاعل فيها المستثمرون مع موجات جماعية من القلق والخوف. النتيجة ليست مجرد خسارة مؤقتة، بل قد تؤدي إلى اضطرابات هيكلية وسوء تسعير طويل الأجل.

في المقابل، توفر هذه الفوضى فرصًا نادرة لأولئك الذين يتحلون بـ الصبر والانضباط والاستقلالية في التفكير، بعيدًا عن اندفاع الجماعة. إن القدرة على تحليل الموقف بهدوء، خلافًا للتيار، هي ما يميز المستثمر الحقيقي عن المقلد.

إذ يكافئ السوق في النهاية العقل الهادئ والقدرة على اختيار توقيت الدخول والخروج بذكاء.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى