حروب السيليكون.. معركة القرن التي تعيد رسم خرائط القوة العالمية

لم تعد موازين القوة في القرن الحادي والعشرين تُقاس بعدد الجيوش أو حقول النفط، بل في قدرة الدول على التحكم في أصغر مكوّن تكنولوجي وأكثره تأثيراً: الرقاقة الإلكترونية.
فقد تحولت أشباه الموصلات من عنصر خفي في الإلكترونيات الاستهلاكية إلى خط الدفاع الأول في تنافس جيوسياسي شرس يعيد هندسة النظام العالمي.
ما بدأ كخلاف تجاري بين الولايات المتحدة والصين في 2018، سرعان ما تطور إلى حرب تكنولوجية مفتوحة. تتهم واشنطن بكين بسرقة الملكية الفكرية وتشويه قواعد التجارة العالمية، بينما ترى الصين أن العقوبات الأميركية محاولة ممنهجة لإبطاء صعودها ومنعها من امتلاك التكنولوجيا الحيوية.
وهكذا انتقلت المواجهة من الرسوم الجمركية إلى منع التصدير، وإلى تحالفات تكنولوجية تقودها واشنطن بهدف خنق قدرة الصين على الاندماج في سلاسل الإمداد المتقدمة.
ومع تصاعد هذا الصراع، لم تعد الرقاقات مجرد مكونات تقنية، بل باتت «السلاح الصامت» الذي سيحدد من سيقود العالم في عصر الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية.
فالهاتف الذكي والطائرة المسيّرة والصاروخ الفرط صوتي والأقمار الصناعية… جميعها تعتمد على نفس “القلب” السيليكوني الذي أصبح اليوم ساحة معركة عالمية.
تحتل تايوان مركز الثقل في هذه المواجهة، إذ تنتج 90% من أشباه الموصلات الأكثر تقدماً عبر شركة TSMC. هذه الهيمنة جعلت الجزيرة ليست فقط ركيزة للاقتصاد العالمي، بل أيضاً نقطة اشتعال محتملة.
فواشنطن تعتبر حماية تايوان جزءاً من حماية تفوقها التكنولوجي، بينما ترى بكين أن إعادة الجزيرة إلى سيادتها مسألة سيادية لا يمكن التراجع عنها.
تعقيد صناعة الرقائق يزيد من حدّة الصراع:
-
الولايات المتحدة تهيمن على التصميم والبرمجيات.
-
تايوان وكوريا الجنوبية تسيطران على التصنيع المتقدم.
-
هولندا تمتلك المفتاح الأهم: آلات الطباعة الضوئية فائقة الدقة.
-
اليابان تزوّد العالم بالمواد المتقدمة.
-
الصين، رغم استثماراتها الضخمة، ما تزال متأخرة في التقنيات الأكثر تقدماً.
أي اضطراب في أي حلقة من هذه السلسلة يمكن أن يوقف إنتاج الهواتف، والسيارات، والطائرات، وحتى الأنظمة العسكرية.
من خلال “قانون الرقائق والعلوم” الذي ضخّ أكثر من 50 مليار دولار، أعلنت واشنطن رسميًا أن الرقائق أصبحت جزءاً من استراتيجيتها للأمن القومي.
وقد نجحت في استقطاب حلفائها—اليابان، هولندا، كوريا الجنوبية، وتايوان—إلى تحالف تكنولوجي يهدف إلى منع الصين من الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة. كما تم فرض قيود على شركات كبرى مثل Huawei وSMIC، وحرمان بكين من المعدات الحساسة التي تنتجها شركة ASML الهولندية.
في المقابل، تستثمر بكين مئات المليارات في مبادرة “صنع في الصين 2025” لبناء سلاسل توريد مستقلة. تجذب المهندسين، وتطوّر مراكز بحث، وتنشئ مصانع عملاقة بهدف التخلص من الهيمنة الغربية.
لكن ورغم النجاحات، تبقى الصين عالقة في ما يسميه الخبراء “فخ الاعتماد”: فهي قادرة على التصميم، لكنها تفتقر إلى المعدات والبرمجيات المتقدمة التي تحتكرها الشركات الغربية.
يتجه العالم اليوم نحو نظامين تقنيين متوازيين:
-
منظومة تقودها الولايات المتحدة تعتمد على الرقائق الغربية.
-
منظومة صينية تسعى إلى الاكتفاء الذاتي والتحرر من السيطرة الأميركية.
أما الدول الأخرى، من أوروبا إلى آسيا وإفريقيا، فتجد نفسها مضطرة للاختيار بين معسكرين، في وقت ترتفع فيه تكاليف الإنتاج وتزداد هشاشة الاقتصاد العالمي نتيجة تفكك سلاسل الإمداد.
إذا كان القرن العشرون قرن «حروب النفط»، فإن القرن الحالي هو قرن «حروب السيليكون». الفرق أن النفط كان موزعاً جغرافياً، بينما تكمن قوة الرقائق في نقاط اختناق قليلة، ما يجعل أي صراع قادرًا على شل الاقتصاد العالمي خلال أيام.
إن حرب أشباه الموصلات ليست صراعاً تجارياً عابراً، بل مواجهة استراتيجية ستحدد شكل النظام العالمي المقبل. واشنطن تخشى خسارة التفوق، وبكين ترفض العودة إلى “قرن الإذلال”.
وبينهما يقف اقتصاد عالمي متشابك يدفع ثمن صراع لا يمكن حسمه بسهولة ولا احتواؤه دبلوماسياً.
ستُسجَّل هذه المرحلة في التاريخ كـ «الحرب الباردة السيليكونية» التي لم تُطلق فيها رصاصة واحدة، لكنها كانت كفيلة بإعادة صياغة معادلات القوة في العالم.




